في ذكرى وفاته..
الشيخ النائيني.. رائد تقويم الديمقراطية
|
مهدي الحكيم
في تاريخنا القديم والحديث طالما نمجّد ونثني على أبطال و روّاد الحركة الاصلاحية والتغييرية في أنظمة حكم استبدادية ظالمة، لأن هؤلاء فكّروا أولاً؛ ووضعوا النظريات والطروحات ثم نزلوا الى الميدان وبذلوا الغالي والنفيس لتطبيق الفكرة والاسلوب الذي من خلاله تتمكن الشعوب من الخلاص من ربقة العبودية والذل على يد حكام الجور، وفي هذا الطريق قدموا التضحيات المادية والمعنوية، فمنهم من قتل في سجون الحكام أو اغتالته الأيدي الخائنة، ومنهم من تعرض للتشويه والتسقيط بل حتى التكفير، بينما يشهد التاريخ على حسن نواياهم ونبل أهدافهم، وهم بمعظمهم خريجو الحوزات العلمية وممن تتلمذوا على علوم أهل البيت (عليهم السلام).
من هؤلاء الروّاد صاحب الذكرى العلامة الشيخ محمد حسين النائيني، وهو أحد مراجع الدين الكبار في النجف الأشرف في مطلع القرن الماضي، وارتبط اسمه تاريخياً بالحركة الدستورية الشهيرة في ايران عام 1905م والتي شكلت منعطفاً تاريخياً كبيراً في تاريخ ايران حيث تم تدوين أول دستور لأول بلد اسلامي في العصر الحديث يقيّد سلطة الحاكم مقابل إفساح المجال لسلطة الشعب. وكان الشيخ النائيني من المؤيدين لهذه الفكرة رغم ان فكرة الدستور بالأساس جاءت من بريطانيا التي شعرت بالخطر على مصالحها من مفساد البلاط القاجاري التي باتت تزكم الأنوف، لكن مع ذلك أقرّ الشيخ النائيني ومراجع دين كبار آخرين بأن فكرة (الديمقراطية) هي أحسن الخيارات السيئة!
*النائيني في سطور
ولد الشيخ محمد حسين بن الشيخ عبد الرحيم الغروي النائيني في الخامس والعشرين من ذي القعدة 1276? بمدينة نائين القريبة من مدينة كاشان التاريخية في إيران. أكمل دراسة المبادئ والعلوم في نائين، وفي أوائل شبابه سافر إلى إصفهان لإكمال دراسته هناك، ثمّ سافر إلى سامرّاء المقدّسة عام 1303? للاستفادة من أُستاذه المجدد الشيرازي الكبير، وفي عام 1314? وبعد وفاة أُستاذه الشيرازي بسنتين سافر إلى كربلاء المقدّسة وبقي فيها سنتين، ثمّ انتقل إلى النجف الأشرف عازماً على الإقامة بها للتدريس والتحقيق.
من أساتذته؛ الميرزا السيّد محمّد حسن الشيرازي، المعروف بالشيرازي الكبير\ والشيخ محمّد حسين الأصفهاني والشيخ محمّد باقر الأصفهاني والشيخ أبو المعالي الكلباسي.
وأما عن مكانته العلمية فيقول عنها المحقّق الشيخ آقا بزرك الطهراني: «أمّا هو في الأُصول فأمر عظيم، لأنّه أحاط بكلّياته، ودقّقه تدقيقاً مدهشاً، وأتقنه إتقاناً غريباً، وقد رنّ الفضاء بأقواله ونظرياته العميقة، كما انطبعت أفكار أكثر المعاصرين بطابع خاصّ من آرائه، حتّى عُدّ مُجدّداً في هذا العلم»، ثمّ قال: «وكان لبحثه ميزة خاصّة لدقّة مسلكه، وغموض تحقيقاته، فلا يحضره إلّا ذووا الكفاءة من أهل النظر، ولا مجال فيه للناشئين والمتوسّطين؛ لقصورهم عن الاستفادة منه».
الى جانب مكانته العلمية الرفيعة، اتصف الشيخ النائيني باخلاق عالية وانطوى على نفس كبيرة و وقار منقطع النظير وهيبة فائقة، وكان على درجة عالية من الانقطاع إلى الله تعالى والفناء في ذاته، وعدم التماهل في أداء المسؤوليات الشرعية، حتّى قال عنه الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء: «كانت كلّ أحواله وأعماله وعلومه تدلّ على نفس كبيرة ذات قدسية كريمة، قليلة النظير أو معدومة المثيل».
تخرّج على يد الشيخ النائيني ثلّة من كبار العلماء ومراجع الدين أبرزهم؛ السيّد جمال الدين الكلبايكاني، السيّد محسن الطباطبائي الحكيم، السيّد محمّد حسين القاضي الطباطبائي، السيّد أبو القاسم الخوئي، الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني، السيّد محمّد هادي الحسيني الميلاني، السيّد محمود الحسيني الشاهرودي، السيّد حسن الموسوي البجنوردي، السيّد محمّد حجّت الكوهكمري، الشيخ محمّد تقي الآملي، الشيخ علي محمّد البروجردي، الشيخ محمّد باقر الأشتياني، الشيخ محمّد رضا المظفّر.
و برز اسم النائيني في سماء المرجعية الدينية في النجف الأشرف بعد وفاة الشيخ فتح الله الأصفهاني، المعروف بشيخ الشريعة، فرجع إليه الناس في التقليد.
*الحوزة العلمية ونظام الحكم
يمكن القول إن حركة المطالبة بالدستور في ايران وضعت الحوزة العلمية لأول مرة في تاريخها أمام منعطف سياسي؛ إما ان تخوض غمار السياسة وتعترف بنظام الديمقراطية المبتكر المُعد غربياً والمتضمن تحديد صلاحيات الملك حتى وإن كان صديقاً للحوزة العلمية، أو أن تؤيده حتى وإن كان ظالماً ومصادراً لحريات الناس، وسد الطريق على ظهور مجلس نواب يمثل الشعب. وفي ظل هذه الظروف والملابسات استطاع العلامة النائيني أن يخطو خطوة كبيرة مستعيناً بعلمه وتديّنه فطرح نظرية ثالثة للأمة كحلّ للمشكلة القائمة تتلخص بـ(الدين الديمقراطي) أو الديمقراطية الدينية، ولم يكتف العلامة النائيني في نظريته هذه بالمزج بين مبادئ الدين ومبادئ الحكومة الشعبية ولكنه هاجم مبدأ (طاعة السلطان) لكونه أحد أركان النظام الاستبدادي الممقوت وأشار إلى التزلف والعبودية للمتجبرين على انه في حد الشرك بالله وبمنزلة الوثنية وعبادة الأصنام.
وفي تلك الفترة دوّن العلامة النائيني نظريته في الحكم في كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملّة) قسّم فيه الحكومات إلى نوعين: الحكومات الاستبدادية والحكومات الدستورية، ثم ناقش ركائز النظام الاستبدادي وعالج علاقته بمبادئ الدين والالتزام به فوضع له عدة مميزات.
1- مفاسد الجهل.. بما إن الإنسان قد جبل مختاراً، فلذلك يعد العلم شرطاً أساسياً وبديهياً للاستفادة من هذه القدرة والملكة في جميع المجالات ومن جملتها حياته السياسية، لذلك يرى العلامة النائيني بأنه ما دامت الأمة تجهل مسؤوليات السلطة وحقوقها السياسية ولا تعلم ما يترتب على ذلك الجهل من مفاسد واضرار فان الاستبداد سيبقى وسيفرض المستبدون أنفسهم عليها بالقوة وسوف لا تنفع معها جميع المعالجات.
2- استغلال الدين.. يعد العلامة النائيني استغلال الدين لتحقيق بعض المآرب الدنيوية الخاصية الثانية المهمة للنظام الاستبدادي ويصف ذلك بأنه أحد النتائج الطبيعية الحتمية لجهل الأمة المركب، فهو يهاجم علماء السوء الذين يستغلون جهل الأمة بضروريات واستحقاقات دينها ومبادئه السامية ويدعونهم إلى الطاعة العمياء للسلطان ويعمدون إلى تشويه مبادئ الدين الحنيف بتوظيف الدين لتبرير أعمال وجرائم الحكام المستبدين في القتل والنهب ومصادرة الحريات الأساسية للأمة.
3- تقديس السلطان.. تضفى على الملك (السلطان) في المجتمعات المبتلية بالاستبداد هالة من القدسية ويطلق عليه لقب ظل الله في الأرض ولذلك يجب أن يطاع وان يقدس كما يعبد الله ويطاع. ويرى العلامة النائيني إن أمراض الجهل والأمية المستشرية في الأمة تحت تأثير طبيعة النظم الاستبدادية ترجع بأجمعها إلى ثقافة (تقديس السلطان) أو (عبادة الملوك) التي توغلت في نفوس أبناء الأمة حتى غدت وكأنها من جملة طبائعهم التي قد جبلهم الله عليها، علماً بأن مبادئ الشريعة المقدسة وضروريات الدين الإسلامي تؤكد حرمة التعاون مع الحكام الغاصبين واعانة الطواغيت والظلمة، إلا أن بعض رجال الدين يتشبثون بالمغالطات في دفاعهم عنهم ويصورون ذلك دفاعا عن الدين، وهم في الواقع إنما يبيعون أنفسهم ويشوهون مبادئ الدين الحنيف ويروجون الصنمية وعبادة الأوثان من حيث لا يشعرون.
4- التمايز الطبقي.. تغذي الأنظمة الاستبدادية الاختلافات الطبقية في أوساط الأمة وهو ما يعتبر أحد مميزاتها وخصائصها كنتيجة حتمية لوجود العوامل الثلاثة المذكورة آنفاً، ويستدل العلامة النائيني بهذه الآية المباركة "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ" (القصص /3) ويقول: لقد فسر المفسرون كلمة (شيعاً) بأنهم متفرقون والآية الكريمة تعزو سبب هذا الاختلاف والتفرق إلى وجود نظام مستبد يتربع على عرشه فرعون الذي ادعى الالوهية والربوبية وهو ما يبدو واضحا في سياق الآية.
5- ممارسة الإرهاب والاغتيال والعنف.. لا تملك السلطة التي تقفز إلى سدة الحكم بالقوة - لأجل بقائها واستمرارها بالحكم - وسيلةً إلا انتهاج أساليب الإرهاب والاغتيال واعتقال وتعذيب الأحرار من متدينين و وطنيين وقمع تطلعاتهم نحو الحرية، ويعتقد العلامة النائيني أن هذا الأسلوب ليس جديداً فلقد مارسه الفراعنة والطواغيت في التاريخ القديم أيضا، ويعزو السبب في ذلك إلى عاملين: الأول هو استجابة لما يغلي في صدور الحكام المستبدين من الحقد والضغينة والتشفي من دعاة الحرية والناهضين لإقامة المبادئ والقيم التي بشر بها الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين (ع). والثاني هو سعيهم المحموم لاجتثاث شجرة الحرية والإباء والوقوف أمام انتشار مفاهيمها في أوساط الأمة عبر ارعابها وفرض حالة من الاستعداد النفسي لتقبل الظلم والعبودية لكي تمحى مفاهيم الشرف والكرامة والعزة من اوساط الأمة.
لا شك أن العلامة النائيني كان يدرك تماماً أن مفاهيم ومبادئ الحركة الدستورية وحكومة الشعب والتي كانت رائجة ومنتشرة في عصره إنما وفدت إلى بلادنا من الغرب، ولكنه واعتماداً على استقلالية التفكير التي تميز بها كان يرى أن النظام الديمقراطي الغربي يتطابق في كثير من جوانبه وتفصيلاته مع نظرية الشورى في الإسلام (هذه بضاعتنا ردت إلينا). ولذلك فهو لم يكن يرى أي مانع في اقتباسها من الغرب وتطبيقها في إيران آخذاً بنظر الاعتبار أن إيران بلد شيعي متمسك بمبادئ المذهب الحق وتعاليم الدين الإسلامي السامية، فكان لابد حينئذ من تعديل مبادئ النظام الدستوري الغربي في بعض الجوانب لكي تتحول إلى مبادئ دستورية وطنية ايرانية تتماشى ومبادئ الإسلام الحنيف ويصبح بالإمكان تطبيقها في إيران.
وعلى طريق تقويم الحركة الديمقراطية في ايران، وهي بالحقيقة أول تجربة سياسية في العالم الاسلامي، قدّم كبار علماء الدين والمراجع تضحيات جسيمة بارواحهم وسمعتهم من أجل الحفاظ على مبادئ الدين ا لحنيف وفي نفس الوقت الحفاظ على كرامة وحقوق الناس والعمل على تحقيق طموحاتهم واهدافهم في العيش الكريم، وكان في طليعة أولئك الأبطال المرجع الديني الشيخ محمد كاظم الخراساني المعروف بـ(الآخوند)، الذي تعرّض عدة مرات للاغتيال والمضايقات بسبب مواقفه الاصلاحية، والشيخ فضل الله النوري الذي أعدم شنقاً وظلماً وسط العاصمة طهران بتحريض من المتغربين بتهمة العمل على (تقويض الديمقراطية) ومساندة الاستبداد!!
|
|