محمد بن الحنفية..
العزم الذي لم ينثنِ
|
*محمد طاهر محمد
يقاس رُقي الأمم بما خلد أبطالها من مآثر وما شخصوا من مكارم فهو معيار سمّوها ورفعتها، والتاريخ الإسلامي يزخر بهذا التراث الضخم من المآثر والمناقب يشمخ بعلو هامته على كثير من حضارات الأمم. و رغم تعاقب السلطات الجائرة على الحكم والتي حاولت لأغراض سياسية أن تمحو هذه المآثر والنيل من أبطالها إلا أنها شخصت في أعماق التاريخ وأشرقت في غياهب الزمان لتدل على أصحابها.
وفي بطون التاريخ أشرقت صفحات ناصعة لم يستطع الحاقدون تلويثها وأخماد جذوتها، هذه الصفحات سطرها بطل من أبطال الإسلام وعلم من أعلام التاريخ الإسلامي ألا وهو شبل أمير المؤمنين (ع) محمد بن الحنفية، ذلك الرجل العظيم الذي أفنى عمره في طاعة الله ورسوله وأوصيائه حتى قال فيه أبوه (ع): (أبت المحامدة أن يعصى الله)، والمحامدة الذين قصدهم أمير المؤمنين (ع) بقوله هم: محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعلى رأسهم محمد بن الحنفية كما أفرد له أمير المؤمنين (ع) كلمة خالدة أفصحت عن مكانة محمد العظيمة عند أبيه حينما قال: من أراد أن يبرني في الدنيا والآخرة فيبرّ ولدي محمداً) ونحن نعرف أن أمير المؤمنين (ع) لا يتكلم على سبيل العاطفة فيتحف ولده بهذه الكلمات العظيمة وهو لا يستحقها بل أن هذه الكلمات عبرت عن مكانة محمد الحقيقية لدى أهل البيت (ع) وقد نالها محمد عن جدارة واستحقاق.
*النشأة والمنزلة
اجتمعت الروايات على أن السيدة خولة – أم محمد – هي من السبايا ولكن المؤرخين اختلفوا في مصدر السبي حتى بلغ الاختلاف عندهم أن شطّ عن الواقع التاريخي الذي حدد حياة محمد والحقبة التي عاش فيها والقول الفصل في ذلك أن خالد بن الوليد عندما جاء بسبي بني حنيفة من اليمن الى المدينة بعد أن قتل مالك بن نويرة غدراً ونزا على إمرأته في نفس الليلة كما ذكرت ذلك كتب السير والتاريخ كان من جملة المسبيات خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبد الله بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم. وقد ذكر هذا النسب أبو نصر البخاري النسابة وأثبته ابن خلّكان في (وفيات الأعيان) وابن أبي الحديد في (شرح النهج) الذي زاد على نسبها فذكر: لجيم بن علي بن بكر بن وائل. وقد أرادت بعض النفوس المبغضة التلاعب بهذا النسب العربي الصريح فذكر ابن الجوزي في كتابه (صفوة الصفوة) وابن سعد في (طبقاته) عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: (رأيت أم محمد بن الحنفية سندية سوداء و كانت أَمة لبني حنيفة ولم تكن منهم وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم)، ومثل هذا القول لا اعتبار له لأنه قد جنف عن الحق واستند الى البغض الذي تكنه أسماء وإبنها عبد الله بن الزبير لمحمد لامتناعه عن البيعة مع جماعة من بني هاشم لأبن الزبير عندما دعا البيعة لنفسه في مكة بعد مقتل الامام الحسين (ع)، فلم تجد أسماء في محمد ولا في أمه ما يُعاب فالتجأت الى هذا القول الزائف للتقليل من شأنهما ومما يؤكد ذلك أنه لم يرد مثل هذا القول من غيرها من نساء المهاجرين والأنصار وخاصة اسماء بنت عميس التي كانت خولة في دارها بعد سبيها فأكرمت مثواها ثم أن خالد لم يصالح بني حنيفة لا على الرقيق ولا على أنفسهم وقد خالف هذا القول الواقع التاريخي. كانت خولة سيدة شريفة في قومها اشتراها أمير المؤمنين (ع) واعتقها ومهرها وتزوجها وقد روى المجلسي في بحار الأنوار ج9 ص618 حديثاً طويلاً جرى في المسجد بين السيدة خولة وأمير المؤمنين (ع) أمام أبي بكر وجمع من الصحابة دلّ على أن لهذه السيدة الجليلة منزلة عند الله تعالى.
كانت ولادة محمد سنة 15 للهجرة وكنّاه أمير المؤمنين (ع) بأبي القاسم وهي ميزة اجتمعت لمحمد في الاسم مع الكنية حيث أن رسول الله (ص) إمتاز عن الأمة بخصائص لم يشاركه فيها أحد منها أنه لم تسمح الشريعة المطهرة لأحد من الناس بالجمع بين الأسم بمحمد والكنية بأبي القاسم تأدباً مع صاحب الرسالة وتكريماً لجلالة النبوة وقد روى النوري في المستدرك ج2 ص619 ومسلم في صحيحه ج2 ص228 عنه (ص) أنه قال: (سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لكنه (ص) أصدر الرخصة لعلي بذلك فقال (ص): (يولد لعلي (ع) مولود من غير ابنتي فاطمة فقد أنحلته أسمى وكنيتي وهو محمد بن علي) ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته ج5 ص66 أن طلحة أراد تهييج الرعاع وتجرأ على الوقوف بوجه أمير المؤمنين (ع) معترضاً بوقاحة فقال: (لا كجرأتك تسمي بأسمه وتكني بكنيته) فقال له أمير المؤمنين (ع): (الجريء من اجترأ على الله ورسوله ثم نادى علي (ع) يا فلان أدع لي فلاناً فجاء نفر من أصحاب النبي (ص) من قريش فشهدا أن رسول الله (ص) رخّص لعلي أن يجمع الأسم والكنية) ومثل هذا روى الحافظ في أنواع الحديث وفي ذلك يقول السيد الحميري:
ألم يبلغك والأنباء تنمى مقال محمد فيما يؤدي
الى ذي علمه الهادي علي وخولة خادم في البيت تردي
ألم تر أن خولة سوف تأتي بواري الزند ضافي الخيم نجدِ
يفوز بكنيتي واسمي لأني نحلتهماه والمهدي بعدي
والإشارة في البيت الأخير واضحة الى الإمام المهدي المنتظر (عج) الذي تضافرت الروايات عن النبي (ص) والأئمة الطاهرين في أسمه وكنيته منها ما رواه المجلسي في البحار عن رسول الله (ص) قوله: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي أسمه اسمي وكنيته كنيتي... الخ).
*الشجاعة و الولاء
كان محمد بارّاً بأمه حتى ضرب به المثل في ذلك قال صالح بن ميثم: رأيت في يد محمد بن الحنفية أثر الحناء فقلت له: ما هذا؟ فقال: كنت أخضب أمي، وعن سالم بن أبي حفصة: أن محمداً كان يمشطها، ولا عجب من المتأدب بآداب أهل البيت (ع) أن يبلغ بره بأمه أن تضرب به الأمثال فقد رُبي في بيت تأدب أهله بآداب الله وأصبح مثلاً أعلى في الفضيلة والأخلاق، والى جانب هذه الأخلاق العالية التي تمتع بها محمد فقد اشتهر بالشجاعة. يقول ابن كثير في البداية والنهاية ج9 ص38: (كان محمد ابن الحنفية من سادات قريش ومن الشجعان المشهورين ومن الأقوياء المذكورين). وقد ذكر ابن خلكان عن أبي إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء قصصاً كثيرة عن شجاعة وقوة محمد بن الحنفية. فقد شهد محمد الجمل مع أبيه وله فيها مواقف مشهودة وقد دفع أمير المؤمنين رايته إليه وقال له احمل فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواضعهم وطعنهم طعناً منكراً فقال علي (ع):
اطعن بها طعن أبيك تحمدِ لا خير في الحرب إذا لم توقدِ
بالمشرفي والقنا المقصّدِ
وكان ذلك اليوم يوماً شديداً قال خزيمة بن ثابت فيه لأمير المؤمنين (ع): (أما أنه لو كان غير محمد اليوم لأفتضح) ثم خاطب خزيمة محمداً قائلاً:
محمد ما في عودك اليوم وصمة ولا كنتَ في الحرب الضروس معرّدا
أبوك الذي لم يركب الخيل مثله علي وسمّاك النبي محمدا.... الخ
كما كان حامل الراية في صفين وفيها أبهر العقول بشجاعته وبطولته وقد سجل له التاريخ مواقف فيها صارت غرة في تاريخ البطولات أوردها مفصلة نصر ابن مزاحم في كتابه (وقعة صفين) ويقول الخوارزمي في مناقبه ص147: (لقد قتل محمد من أبطال أهل الشام سبعة في ساعة واحدة) كان محمد عظيم القدر جليل المرتبة لدى أهل البيت (ع) وهنااك شهادة في حقه من الإمام الحسن (ع) رواها الدينوري في الأخبار الطوال ص203 قال: (اشتكى الحسن بالمدينة فثقل وكان أخوه محمد بن الحنفية في ضيعة له فأرسل إليه فلما دخل عليه جلس عن يساره والحسين عن يمينه ففتح الحسن عينه فرآهما فقال للحسين (ع): يا أخي أوصيك بمحمد أخيك خيراً فإنه جلدة ما بين العينين ثم قال: يا محمد وأنا أوصيك بالحسين كانفه و وازره).
شهد محمد شهادة أبيه واشترك مع أخوته في تغسيله (ع) وحمل نعشه الشريف من الكوفة الى الغري ليلاً قال المفيد في الإرشاد ص14: (دخل قبره – اي أمير المؤمنين – الحسن والحسين ومحمد وبنو علي (ع) وعبد الله بن جعفر) كان محمد معترفاً بغمامة أخويه بعد أبيهما مطيعاً لهما وقد أكدت كلماته ومواقفه كلها ذلك ومنها موقفه عندما قضى أخوه الحسن (ع) مسموماً شهيداً قال اليعقوبي في تاريخه: (لما قضى الحسن بن علي وقف محمد وقد اغرورقت عيناه بالدموع وقال: رحمك الله يا أبا محمد فوالله لأن عزت حياتك لقد هدّت وفاتك ولنعم الروح روح عمر به بدنك ولنعم البدن بدن تضمنه كفنك ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى وحليف أهل التقى وخامس أصحاب الكساء وجدك المصطفى وأبوك المرتضى) الى أن يقول: (وإنك وأخاك لسيدا شباب أهل الجنة) وعندما عزم الإمام الحسين (ع) السفر الى العراق قال له محمد: (يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ... الخ) كما ذكر ابن الجوزي في تذكرته: (لما بلغ محمد بن الحنفية مسير الحسين وكان يتوضأ وبين يديه طشت فبكى حتى اختلط مع دموعه) وهذه المواقف تدلنا على شدة حبه لسيديه وأخويه سيدي شباب أهل الجنة ولما جاء خبر مقتل الحسين (ع) الى المدينة وسمع به محمد ابن الحنفية بكى بكاءً شديداً حتى غشي عليه ولما أفاق قال: (يعزّ علي يا أبا عبد الله يا أخي كيف طلب ناصراً فلم تنصر ومعيناً فلم تعن.. الخ) كما اعترف محمد بإمامة ابن أخيه علي بن الحسين (زين العابدين) (ع) قال الإمام الصادق (ع): (مامات محمد بن الحنفية حتى أقر لعلي بن الحسين بالإمامة).
بعد مقتل الحسين (ع) وثب ابن الزبير وأطلع رأسه وأظهر أمره في مكة المكرمة فأخذ يشدد على الأمة ويأخذ بخناقها وكثر سفك الدماء وامتلأت السجون كل ذلك إزاء البيعة لنفسه حتى صار الناس يبايعونه خوفاً من القتل لأنه ليس أهلاً للخلافة، قال المسعودي: (وقد كان ابن الزبير عمد الى من بمكة من بني هاشم فحصرهم في الشعب وجمع لهم حطباً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يعلم من الموت أحد منهم وفيهم محمد بن الحنفية) وبلغ من عداوة ابن الزبير لأهل البيت (ع) أن ترك الصلاة على محمد وآل محمد ثم حبس محمداً في سجن (عارم) الذي اصبح بعد ذلك سجناً للحجاج كما يقول (ياقوت الحموي) وحلف ابن الزبير بالله ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار وكان مع محمد سبعة عشر رجلاً من بني هاشم فكتب محمد الى المختار يستغيثه وفي ذلك يقول كثير عزة يحث المختار على انقاذ محمد:
تخبر من لا قيت إنك عائذ بل العائذ المحبوس في سجن عارمِ
فأرسل إليه المختار مع أبي عبد الله الجدلي أربعة آلاف حتى دخلوا مكة فكبّروا تكبيرة سمعها ابن الزبير فولى هارباً واستنقذوا محمداً مع أصحابه ثم قال العجلي لابن الحنفية ذرونا نريح الناس من ابن الزبير، فقال: هذا بلد حرّمه الله ما أحله لأحد إلا للنبي ساعة ما أحله لأحد قبله ولا يحله لأحد بعده، فأمنعونا وأجيرونا قال: ثم ازداد ضغط ابن الزبير على الهاشميين لأجل أن يبايعوا ولكن محمداً وأصحابه لم يبايعوا فخرجوا الى (أيلة) وهو جبل بين مكة والمدينة ثم جُلّوا الى الطائف وفيها مات عبد الله بن عباس فصلى عليه محمد بن الحنفية ودفن هناك، ولما قتل المختار سنة 68 للهجرة أرسل عبد الله بن الزبير أخاه عروة الى محمد بن الحنفية يطلب منه البيعة مجدداً فأبى محمد وذهب الى الشام ولما قتل ابن الزبير طلب الحجاج من محمد مبايعة عبد الملك بن مروان فأبى فقال له الحجاج: والله لأقتلنك، قال: (إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة في كل لحظة ثلاثمائة وستين قضية فلعله يكفيناك في قضية من قضاياه) توفي محمد بن الحنفية رضي الله عنه برضوى وهو جبل بالمدينة ودفن بالبقيع وكانت وفاته سنة 81 للهجرة وروى عبد الله بن عطا عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: (أنا دفنت عمي محمد ابن الحنفية ونفضت يدي من تراب قبره).
|
|