(عيار الشعر) .. محكّ الشعراء
|
*حسن هادي
(عيار الشعر)؛ كتاب يدلّ اسمه على محتواه بحق. فهذا كتاب جمع بين دفتيه كل ما للشعر وما عليه وكل ما ينبغي على الشاعر ان يتخذه، وكل ما عليه أن يتجنبه، وقد انفرد مؤلفه السيد (ابن طباطبا العلوي) – متوفى سنة 322هـ- بآراء لم يسبقه اليها أحد قبله اصبحت مرجعا مهما لآراء النقاد بعده. فقد تناول ابن طباطبا في كتابه ما استخلصه النقاد قبله من خصائص الشعر وزاد عليها آراءه اضافة الى ابتكاره خصائص لم يتطرق اليها احد قبله، عرضها بشكل مبسط.
وقد بين في مقدمة كتابه الغاية من تأليفه الكتاب بقوله: "فهمت - حاطك الله - ما سألت ان اصفه لك من الشعر والسبب الذي يتوصل الى نظمه وتقريب ذلك على فهمك والتأتي لتيسير ما عسر منه عليك وانا مبين ما سألت عنه وفاتح مااستغلق عليك منه ان شاء الله تعالى" ويبدو من خلال هذه المقدمة ان هذا الكتاب وضعه بناء على طلب من أحد اصدقائه أو ربما كان المخاطب به القارئ.
المهم انه جمع آراءه كلها في الشعر في هذا الكتاب ليكون ميزانا للشعر ومحكا للشعراء.
ضم الكتاب ثلاثة وثلاثين باباً، استعرض فيه ابن طباطبا جوانب كثيرة وامثلة عديدة دلت على معرفته الواسعة بهذه الادوات وابرزها قوله في تعداد ميزات القصيدة: "وايفاء كل معنى حظه من العبارة وإلباسه ما يشاكله من الالفاظ حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة واجتناب ما يشينه من سفاسف الكلام وسخيف اللفظ والمعاني المستبردة والتشبيهات الكاذبة والاشارات المجهولة والاوصاف البعيدة والعبارات الغثّة حتى لا يكون متفاوتاً مرقوعا". ويسترسل ابن طباطبا في تعداد ادوات الشعر وإيفاء ميزاته التي تميزه عن النثر ويختم هذا الفصل بخلاصة تنم عن مدى إدراكه لفاعلية هذه الادوات في بناء القصيدة واستيعابه لخصائصها الفنية: "وجماع هذه الادوات كمال العقل الذي به تتميز الاضداد ولزوم العدل وايثار الحسن واجتناب القبيح ووضع الاشياء مواضعها".
ويمكن ان يعد رأيه في صناعة الشعر من أهم الآراء في هذا المجال فقد كان لآرائه الفضل الكبير على الشعراء والنقاد معا، ولم تفقد حيويتها عبر العصور المتفاوتة واثبتت مواكبتها للتطور الشعري حتى عصرنا الحاضر يقول: "اذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا وأعد له ما يلبسه إياه من الالفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه، فاذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه اثبته واعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه".
اول ما يلاحظ في هذه الآراء هو التشخيص الدقيق لبناء القصيدة ومنحها كل خصائصها الفنية وسماتها الموضوعية التي من خلالها يستطيع الناقد وحتى المطالع ان يكتشف مدى شاعريتها من عدمها: "فمن الاشعار اشعار محكمة متقنة الالفاظ حكيمة المعاني عجيبة التأليف اذا نُقضت وجعلت نثرا، لم تبطل جودة معانيها ولم تفقد جزالة الفاظها، ومنها اشعار مزخرفة عذبة تروق الاسماع والافهام اذا مرت صفحاً، فاذا حصلت وانتُقدت، بهرجت معانيها وزيفت الفاظها ومجت حلاوتها ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه"، ويشير ابن طباطبا في هذا الرأي الى تجربة الشاعر ومدى قدرته على الخلق واستحداث الصور المتقنة، وقد سبق ابن طباطبا في هذا الرأي وانفرد به النظرة الموضوعية الى صدق التجربة، فان الشعر اذا كان ذاتياً يصور تجربة ذاتية للشاعر، ورغم انه كان يطلق آراءه بنظرة عصرية تأتي من خلال التطور التدريجي للشعر، إلا انه لم يخف اعجابه بالمتقدمين وحتى تفضيلهم على المتأخرين ويعزو سبب ذلك الى "ان القدماء قد سبقوا الى كل معنى بديع ولفظ فصيح وكان من نتيجة ذلك ان المحدثين اذا أتوا بما يقصر عن معاني السابقين لم يتلق شعرهم بالقول"، وبما ان الموروث يمثل مصدرا من مصادر ثقافة الشاعر وركنا مهما في نظرية المعرفة التي تدخل ضمن التكوين الابداعي للشاعر فقد أولى ابن طباطبا أهمية كبيرة لخزين الشاعر بقوله: "ان يديم النظر في الاشعار التي قد اختزنتها لتلتصق معانيها بفهمه وترسخ اصولها في قلبه". ولا يعني ابن طباطبا ان يتكئ الشاعر على الموروث ويرتكز عليه بل لتنمية قدراته ويضرب مثلا لذلك عن احدهم قوله: "حفّظني ابي ألف خطبة ثم قال لي: تناسها فتناسيتها فلم أرد بعد ذلك شيئا من الكلام إلا سهل عليّ فكان حفظه لتلك الخطب رياضة لفهمه وتهذيبا لطبعه وتلقيحا لذهنه ومادة لفصاحته وسببا لبلاغته ولسانه وخطابته".
هذا الرأي الذي طرحه ابن طباطبا والمثل الذي ضربه، هو أصح الآراء وابرز النتائج في التعامل مع الموروث، فهو يدعو الشعراء الى الابتكار واستحداث الصور الشعرية ولا يسيغ للشاعر ان يكون كلّاً على الشعراء الذين سبقوه يقتات على معانيم ليغذي بها شعره كما حذر الشعراء من اخراجهم المعنى الى وزن آخر غير الذي قيل فيه سابقا لكي يوهم المتلقي ان هذا المعنى من ابتكاره ومن هنا يتم التفريق بين الشاعر الاصيل والشاعر العقيم لأن علاقة الالفاظ ستظل كما هي عند الشاعر العقيم، ولكن القطيعة لن تكون كاملة عند ابن طباطبا بين الشاعر و الموروث، اذ لايحرم على الشاعر ان يأخذ معنى سبق به على شريطة ان يبرزه في احسن مما قيل فيه سابقا وهنا تأتي مقدرة الشاعر في صياغة المعنى كما نبه الشاعر الى ابتداع "الغرائب المستحسنة والعجائب البديعة المستطرفة من صفات وحكايات ومخاطبات في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من اجلها". وبهذا الرأي فان ابن طباطبا ينتصر للشعراء المجددين على النحويين التقليديين الذين يعدّون على الشعراء انفاسهم ويعدون الخروج على قاعدة نحوية بمنزلة الكفر المبين رغم ان الشاعر قد أبدع كل الابداع ونجد ان الشاعر القديم نفسه قد تمرد على بعض قواعد اللغة وخرج بشاعريته الى آفاق رحبة كما في قول الفرزدق:
وعفى زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتاً أو مجلفُ
فلما سُئل على رفع (مجلف) وهي معطوفة على منصوب أجاب: على ما يسوؤك و ينوؤك، فالذي سأله لم يكن شاعرا وانما كان نحويا ممن يتعاملون باللغة في حدود القواعد التي وضعها أناس في غير زمان ولعل قول المتنبي يعبر عن تفاقم هذه الحالة:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
وليس معنى هذا أن يخرج الشاعر خروجاً غير مألوف ويغض الطرف عن قواعد اللغة الاساسية فهو يعير اللغة الشعرية اهمية كبيرة: "فينبغي للشاعر ان لايظهر شعره إلا بعد ثقته بجودته وحسنه وسلامته من العيوب). ولا يكتفي ابن طباطبا بذلك بل انه يدعو الى ان يعاود الشاعر شعره بالتهذيب والتثقيف والنقد وان يتأمل ما قد أدّاه اليه طبعه وألا يعرضه إلاّ بعد إصلاحه وثقته من جودته. وجعل ابن طباطبا مقاييس لقبول الشعر و رفضه ومعرفة الشعر المحكم المتقن من الشعر المموه المضطرب، كما دعا الى اختيار الاوزان غير المستكره لما لموسيقى الشعر من أثر عميق في النفوس.
|
|