الإخلاص في العبادة والحسابات العقلية
|
*يونس الموسوي
الدنيا تخضع لحساب وموازين، فيما الإنسان يجري عليها حساباته التي غالباً ما تكون غير مصيبة، لأنه في الواقع لايريد أن يحسبها بحساب منطق الحق والعدل، بل بحساب الهوى وحب الذات، ومن هنا يكون خطأه، وهنا مكمن مصيبته.
هذا الإنسان يريد أن يضفي على كل شيء طابعاً إنسانياً أرضياً، فهو يستطيع أن يدرك معنى الربوبية عندما تكون مالاً أو شهوة جنسية او منصب كبير، يتوجه اليه بكل مشاعره وكيانه، لكن اذا قلت له: ان الله يعني رفض جميع الاصنام الداخلية، وانه لا يوجد تعدد في الربوبية لهذا وذاك، فانه سيتوقف عجباً، وهو عاجز عن استيعاب الحقيقة.
انه يريد أن يرى الله سبحانه وتعالى كما تراه عينه وحواسه الخمس، وليس كما هي الحقيقة، و ربما يقول قائل: هذه ليست مشكلتنا، إنما هي مشكلة الأقوام السابقة التي لم تدرك الإسلام؟ وأقول إنها مشكلة الإنسانية على مر الزمان والعصور، بل هي مشكلة المسلمين أيضاً، فهؤلاء الذين يقولون بوحدة الوجود، والذين يطلقون على الله (واجب الوجوب) أو ما إلى ذلك من المصطلحات والأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، هم أيضاً أرادوا أن ينظروا إلى الله بعينهم القاصرة وبأنانيتهم الإنسانية، فلم يصلوا إلى حقيقة البارئ فضلّوا وأضلوا، وقد نهوا عن البحث في مثل هذه الأمور، ذلك أن العقل البشري محدود وغير قادر على إدراك حقيقة الذات الإلهية، وإنما نحن نعرف الله سبحانه وتعالى مما عرف به نفسه، ولانزيد في ذلك ولاننقص، ففي الزيادة شرك وفي النقصان شرك.
وكانت هذه القضية مع إنها ليست من المسائل العويصة على الحل، تُعد المشكلة الرئيسة التي إبتليت بها الإنسانية طول العصور والدهور، "قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا" (هود /53). هم يخدعون أنفسهم، لأنهم يعرفون بأن البينة التي أتى بها نبيهم كانت بينة ساطعة وتكسر حجتهم، غير أنهم لايريدون إلهاً يصفه لهم نبيهم هود عليه السلام، إنما يريدون آلهة تصنعها أحلامهم وأفكارهم.
هؤلاء بنو إسرائيل، قد أنعم الله عليهم بمختلف النعم وفضلهم على العالمين، وأنزل عليهم المن والسلوى، وبعد هذا كله ماذا يطلبون من نبيهم؟
"قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ" (الأعراف /138) وهنا نسأل: لماذا لم يملأ الله عقولهم؟ ولماذا يريدون آلهة أخرى؟ ألا يكفيهم إلهاً واحداً فرداً صمداً؟ إنهم يريدون آلهة فيها شيء من ذواتهم، يحسون بها وينظرون إليها ويلمسونها، حتى وإن كانت تزدريها عقولهم.
لم يملأ القدس الرباني باطن عقولهم، فحشوها بالأباطيل والأساطير، هم يدركون شيئاً من الربانية من ذلك العجل الذي له خوار "فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ" (طه /88). وبعقولهم الخاوية يصبح خوار العجل له قيمة، بل قيمة إلهية. بينما هم لايستطيعون أن يشاهدوا كل هذه الآيات والدلائل التي حولهم والتي تدل على الله سبحانه وتعالى، الجبال والوديان والأشجار والبحار، كلها تسبح بحمد ربها، غير أن الإنسان لايفقه تسبيحها ولايفقه كُنه وجودها، وهذا الإنسان الضعيف يتأثر بخوار للعجل، ولايتأثر بالصوت الهائل لهذا الكون!
تعالوا لنحسبها بحساب المنطق والعقل: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" (الأنعام /74) ونتساءل: هل من المعقول أن تكون الأصنام المصنوعة من التراب والتمر وغير ذلك، كفأً لله سبحانه وتعالى؟ وهل من المعقول أن يترك الإنسان عبادة الله ربه ثم يتوجه إلى عبادة المخلوقات؟
بحساب المنطق والعقل فإن عبادة غير الله هي عبادة باطلة لاتستند إلى حجة قوية، وقد يدرك الإنسان العابد لغير الله هذه الحقيقة إلا إن الذي يحرفه عن مسار الحق والعدل ليست الحسابات العقلية والمنطقية بل هي الأهواء النفسية والتي تسيطر على العقل وتحجزه عن القيام بدوره المناط به وهو الكشف عن الحقائق. وعندما تسقط الحجة ويعجز منطق العقل ماذا سيقولون: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (البقرة /170). وإذا فعلوا سوءاً أو فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا، وإذا قيل لهم إتبعوا سبيل الله قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، ونتبع ما وجدنا عليه آباءنا فيجيبهم الله سبحانه وتعالى: "أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (البقرة / 170).
حجتهم ضعيفة ومنطقهم سخيف، غير أن كل هذه الحجج وكل هذه المبررات تأتي للتغطية على حقيقة لايريد الإنسان الإعتراف بها، وهي (عبادة الذات) فالإنسان العازف عن ذكر ربه الذي لايريد أن يتخذ الله معبوداً له، هو في الواقع يعبد ذاته و هواه، ويطيع نفسه التي تأمره بفعل كل ما لا يحل، وهي نفسها التي تبرر له ذلك بشتى المبررات والحجج، وهنا يستوي الكفار والمشركون والمسلمون الذين يعملون الجنايات التي تبطل إيمانهم بالله، فهؤلاء جميعاً حقيقتهم واحدة هي أنهم يشتركون في عبادة الذات، فأن الذي يعبد الصنم لايختلف كثيراً عن الذي يؤله البشر من الأنبياء وغيرهم، ولايختلف عن المسلم الذي إبتدع إسلاماً خاصاً به يسفك الدماء وينتهك الأعراض ويسلب الأموال بغير ما أنزل الله، ولذلك فأنهم جميعاً يدخلون مقر واحد هو نار جهنم خالدين فيها، ولو كانوا مختلفين في ذواتهم لاختلفت مقراتهم، بينما كان لهم مقراً واحداً وخاتمة واحدة.
لقد وصف الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء وقال: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" (الفرقان /43)، هم في الواقع لايعبدون الأصنام التي من الحجر، بل هم يعبدون ذواتهم الكائنة في تلك الأصنام، ويعبدون أهواءهم التي تشتمل عليها عبادة الأصنام، فهذه العبادة تُبيح لهم ما لا يستطيعون فعله في الديانات الأخرى، لأن عبادة الله سبحانه وتعالى تفرض عليهم إلتزامات وتحملهم مسؤوليات، وتمنعهم عن محرمات، وهذا ما لا يليق بالإنسان الذي يريد أن يعيش متحرراً من جميع الإلتزامات.
فالإنسان دوماً وأبداً يتوق إلى حياة التحرر من كافة القيود والإلتزامات، فهو يريد كل شيء ويود تحقيق كل شيء، إلا إن هذه المبادئ وهذه الإلتزامات التي يفرضها عليه الدين هي التي تردعه عن إقتحام تلك الطرق وتلك الأعمال التي فيها شهوته ورغبته.
إن الإنسان بحاجة إلى القانون حتى ينظم حياته، وبحاجة إلى القانون حتى يحد من رغباته وشهواته، فهذه الرغبات والشهوات لاحدود لها وإن تم إطلاقها فربما دمرت الحياة.
فهذا الإنسان الذي حرر نفسه من قيود الدين وإلتزاماته، وجد نفسه مقيداً بإلتزامات أخرى أكثر تعقيداً، فإنه لابد وأن يلتزم بقوانين السير والمرور وقانون الضريبة وقانون الجنسية، وقانون الأرض وقانون الجمارك، وقوانين كثيرة أخرى هي ضرورية لتنظيم حياة الإنسان وتحجيم حريته الفردية والإجتماعية. وإذن، فعبادة الله تعني التقيد والإلتزام بمبادئ الخير والعمل الصالح، وعبادة الذات تعني التحرر من كل ذلك.
|
|