سبيلنا إلى دولة المؤسسات
|
حسن الهاشمي
دولة المؤسسات يكون جميع المسؤولين فيها ولاءهم للوطن وديدنهم خدمة أبنائه، يكون فيها البناء تراكميا يبدأ المسؤول الجديد من حيث ينتهي القديم، وهكذا يكون البلد في تطور مطرد والمواطن في بحبوحة من العيش يرفل فيه بحرية ويتنعم بعدالته المعهودة، حب الوطن فيه فوق كل الاعتبارات ورفاهية المواطن خط أحمر لا يمكن تخطيها أو المزايدة عليها. والبناء المؤسساتي في النظام الديمقراطي ثقافة تضرب بجذورها العمق الفسلجي للإنسان وتربيته وظروفه وعلاقاته الفردية والأسرية والاجتماعية، فالإنسان الذي يتربى في بيئة القمع على نطاق الأسرة لا نتوقع منه أن يكون تفكيره جمعيا ومؤسساتيا حينما يتسنم موقعا مهما في الدولة ! وهكذا الإنسان في محل العمل والدائرة والمؤسسة، فإذا كان تفكيره وممارساته شموليا فإنه استبدادي النزعة حتى لو عمل في نظام ديمقراطي، أما إذا كان ديمقراطيا فإنه استشاري النزعة في أي موقع يخدم وفي أي محل يعمل، ولا تزال ثقافة المرء هي التي تتحكم بشمولية المسؤول أو انفتاحه في إدارة ملفات حياته العامة والخاصة التي يخوضها.
مسؤولية البناء المؤسساتي للدولة مسؤولية تضامنية يتحملها الإخوة في الحكومة ومجلس النواب ومجلس القضاء الأعلى ومنظمات المجتمع المدني والصحافة والمثقفون وكل من له باع في هذا الشأن، وكل من له تأثير وكلامه مسموع عليه أن يؤسس لهذه الحالة الإيجابية والضرورية في آن واحد، لأن البناء الشخصي للمسؤول يجعله معزولاً ومكروها وبائساً، أما الذي يريد أن يبني بلده فإنه يبحث عن الفكرة الجيدة والمشروع الجيد والشخص الذي يدر المنافع للبلد لا الأرباح للجيب، وكذلك يبني الدوائر والمؤسسات الخدمية على أسس حضارية ويخلصها من الروتين والرشوة ليحفظ بذلك إنسانية الإنسان وكرامته وافتخاره بانتمائه للبلد، ولا يحصل كل ما ذكر إلا من خلال أفكاره وخبرته وكفاءته وإخلاصه وولائه للوطن وحبه للمواطن بعيدا عن المحسوبية والواسطة والانتماء القبلي أو المذهبي أو القومي.
على المسؤول في أي موقع كان في الدولة أن يحاول البناء ما دام يعمل في موقعه وأن يكون حريصاً أتم الحرص على هذا البناء، بمعنى أن يكون تفكيره تفكيراً مؤسساتياً وان يبني بناء مؤسساتياً، ويدأب كذلك أن يكون هذا البناء مقدما على إثراء النفس والحاشية والأثاث والمكتب... إذ إن هناك ثمة صرفيات فقط على ديكورات وشكليات في دوائر الدولة، وهذا المقدار لابد أن يناسبه مقدار أضخم في بناء البلد ماديا ومعنويا وتطور أبناءه، وبهذا الإصرار يمكن وضع اللبنة الأولى في البناء المؤسساتي للبلد. إذ إن بناء المؤسسات في الدولة الديمقراطية الفتية في العراق سهلة في اللسان صعبة في المراس، وعلاوة على ما ذكر لابد أن نقضي على حالات الفساد المالي والإداري والمحاصصات والمنسوبيات والواسطات، لنبني دولة قائمة على مؤسسات حضارية تحاسب المقصر وتكافئ المبدع وتدفع فيها عجلة الحياة باستمرار دون أن تتأثر بالأفراد والأحزاب والتوجهات ومن أية جهة كانت، فإن هذه الأمور تعد الحلقة المتغيرة الداعمة للحلقة الثابتة في النظام المؤسساتي، وتدار من قبل أكفاء نزهاء أقوياء يوالون الوطن ويحترمون المواطن ويقومون ببناء دولة المؤسسات لا مؤسسات الدولة، وفي الأولى الدولة المتجددة في خدمة المؤسسات كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية وفي الثانية المؤسسات في خدمة الدولة المشيخة تنهار بانهيارها كما في الأنظمة الشمولية، والحالة الأولى نراها ولو بنسب متفاوتة في دول ديمقراطية قد مارست البناء المؤسساتي للدولة أحقابا من الزمن ووصلت إلى ما وصلت إليه من عطاء ورفاه وحرية وتقدم حسبما تقتضيه الحالة النفسية والدوافع الذاتية للفرد ضمن دائرته النفسية والاجتماعية والسياسية. وسبيلنا إلى بناء دولة المؤسسات هو الارتقاء بدوائرنا ومراكزنا ومؤسساتنا بتقديم الأفضل إزاء كل ما يجذر ثقافة التأسيس لهذا البناء العظيم الذي يمكن بلورته عبر الأمور الآتية:
اولا: العمل الجاد على تحويل الاختلاف إلى تنافس شريف يهدف إلى الارتقاء بالبلد، واعتبار مؤسسات الدولة المدنية وما تقدمه من خدمات خطا أحمر لا يمكن المزايدة عليها من أية جهة كانت. ثانيا: تكريس قيم الولاء للوطن والثقة بين أبناءه حافزا نحو التطوير والإبداع. ثالثاً: تداول ثقافة الرأي والرأي الآخر لانتخاب الأفضل وانتقاء الأكمل حيث إن الحكمة ضالة العاقل يأخذها ولو انطلقت من مجنون. رابعاً: انتخاب الكتل السياسية على أساس البرامج السياسية والاقتصادية الناهضة بالبلد، والابتعاد عن التعاطف الإثني والقومي والمذهبي الذي يبقى عزيزا ولكن على النطاق الشخصي وليس السياسي. خامسا: إنشاء مراكز تنموية ومؤسسات تعنى بالبحث العلمي والتطور التكنولوجي واستقطاب العقول من كافة أرجاء العالم. سادساً: إنضاج الآراء من قبل المسؤولين باستشارة أصحاب الرؤى والاختصاص كل حسب اختصاصه وفي جميع الميادين. وأخيرا وليس آخرا فالبناء المؤسساتي بحاجة إلى ثقة متبادلة بين المسؤولين وبينهم وبين المواطنين، وإذا لم تكن الثقة موجودة سيُتهم كل من يفكر ولو كان تفكيره تفكيراً صحيحاً وسينهار العمل ولو كان سليما!! فالفرقاء السياسيون معنيون بالدرجة الأساس بمد جسور الثقة فيما بينهم حبا للوطن الذي يعيشون فيه وولاء للمواطن الذي رفعهم إلى مواقعهم التي هم عليها الآن، كفانا ثمان سنوات مضت ونحن نراوح مكاننا، لا نتقدم خطوة إذا لم نتراجع خطوات إلى الخلف، فلابد إذن من وجود ثقة فيما بيننا حتى نستشعر فعلاً إن البناء المؤسساتي بدأ يدخل حيز الواقع والتنفيذ ولو في خطواته الأولى...
|
|