قيم القاع.. إرث التوتاليتارية الثقيل
|
لطيف القصاب
المقصود بقيم القاع هي مجموعة المظاهر السلوكية التي تنشا في ظل الحكومات التوتاليتارية، وتتجذر في نفوس الأفراد بفعل الخوف الصادر عن تلك الحكومات، وتشيع بالتساوي بين مجتمعات السوقة والنخبة والفقراء والاغنياء على حد سواء، وتظل ماثلة للعيان حتى بعد رحيل الحكم التوتاليتاري بمُدد يصعب التكهن بمدياتها على جهة القطع.ويمكن تعريفها ايضا بكونها التنافس المحموم وغير الشريف الصادر من غالبية الافراد المعرضين لهواجس الاضطهاد الدائمة، وذلك في محاولات مستمرة من اجل الحصول على مغنم ما او الهروب من مغرم ما.
ان قيم القاع النابعة عن البيئات المستبدة تفوق بخطرها وحجم الخراب الذي تحدثه قيم القاع الفطرية التي تجسدها عمليا في العصر الحاضر بعض المجتمعات البدائية التي تعيش خارج ملكوت الحضارة ؛ ذلك ان القيم الفاسدة الفطرية سرعان ما تتحول عن مساراتها وتنبذ ما تعودت عليه من سلوكيات ضارة حالما تصل الى مستوى معقول من التعليم. بيد ان هذه القيم المتدنية عندما تولد نتيجة ارهاب التوتاليتارية تظل هي المتحكمة في نفوس الناس الى امد بعيد بصرف النظر عن مستويات التعليم وحتى بعد فترة ليست بالقصيرة من انتهاء الحكم التوتاليتاري في بلد ما تماما كما شهدته وتشهده الساحة العراقية في ميادينها الفكرية والسياسية والاقتصادية منذ التحول الذي اصاب البلاد عام 2003 نحو الديمقراطية بعد حوالي ربع قرن من القمع الدكتاتوري الشامل والقى بظلاله القاتمة على هذه الميادين الثلاثة حتى بعد رحيله، وكما يلي:
اولا: الميدان الفكري
لم تزل السمة السائدة في الطرح الفكري العراقي بوجه عام تتمثل بتحاشي البحث العلمي الموضوعي عند القيام بمهمة تحليل فكري او فلسفي ما، فغالبا ما يتجاهل الكثير من الباحثين الخوض في نقاط بعينها، وينكرون احتمالات حدوثها انكارا قاطعا مع قابليتها الواضحة على الامكان الفعلي، لا لشيء الا لخوف هؤلاء الباحثين من مجرد التفكير بما يخشون تمظهره عمليا على ارض الواقع. يمكن ان تُرصد هذه الظاهرة بمنتهى اليسر في كل مجلس عراقي يضم نخبة مثقفة تنضوي تحت اطار فكري معين ولا يشذ عن هذا الخط الا اقل القليل من تلك المجالس، مع وجود الامكانية الدائمة حيث يُنظر الى الانسان المتحرر فكريا - حتى في اكثر المجالس الفكرية انفتاحا - نظرة المريض غير القادر على التكيف مع المحيط العام او المشكوك بولاءاته، وهذا العنصر الاخير يمثل السنام الاعلى من ارث الايدلوجية التوتاليتارية الذي توزع بنسب عادلة بين الاقارب والاباعد.
ثانيا: الميدان السياسي
تحوز بعض الطواقم السياسية العراقية الحالية على مرتبة الوسط الرئيس الناقل لقيم القاع بفضل الصيغة الرئيسة المتحكمة في المشهد السياسي العام، والمقصود بها صيغة المحاصصة، طبعا ليست المحاصصة بالمعنى القانوني الذي يرتب حقوقا متساوية للأفراد من حيث الدخل والصحة والتعليم، فهذا الامر على فرض وجوده يمثل حلا واقعيا للقسم الاعظم من ازمات المجتمع العراقي الفطرية والمكتسبة منها، ولكن هي المحاصصة المعاشة والتي تعني احتكار جهة سياسية ما لحقوق وامتيازات مكون اجتماعي ما تحت مسمى التمثيل الابدي والوحيد لهذا المكون او ذاك. إن ما امتازت به هذه الصيغة السياسية من انقلابات مستمرة على الاتفاقيات المبرمة بين الشركاء المتحاصصين، وشيوع الخطاب التسقيطي يتأتى من خوف كل طرف سياسي من احتمال ان يجني خصمه مكاسب اكبر مما يجنيه هو، او ان يبادر طرف ما بفضح احد شركائه في اللعبة السياسية المبنية في المقام الاول على هذه القاعدة المدفوعة اصلا بحالة القلق وانعدام الثقة المستصحبة من النمط التوتاليتاري (البائد).
ثالثا: الميدان الاقتصادي
من اشد صور الشكل التوتاليتاري وضوحا في هذا الميدان هو استشراء ظاهرة الفساد والإفساد في جميع مفاصل الحياة الاقتصادية في البلاد تقريبا، واخطر ما في الامر هو اختلاف النظرة الاجتماعية الى ظاهرة الفساد بشكل كبير، فبدلا من وصمها باللعنة تجد ان لفظة الفساد اخذت تُصنف من لدن افراد تحت دلالات عرفية مقبولة، لاسيما مع وجود واقع شرعنة الفساد. واحدث شاهد على هذه القضية ما تم اثباته رسميا داخل قبة البرلمان في ان مفوضية الانتخابات كانت قد اقدمت على تعديل بعض فقرات القانون الذي ينظم اجراءاتها الرسمية، لا لشيء الا لإسباغ الصفة القانونية على بعض قرارات التعيين المتخذة من قبلها، والتي تم العمل بموجبها من عام 2007 – 2010 ومن دون وجود سند قانوني حقيقي طيلة تلك السنوات الثلاث، مثلما اوضحت ذلك للملأ النائبة البرلمانية حنان الفتلاوي في استجوابها لرئيس مفوضية الانتخابات فرج الحيدري بتاريخ 2/ 5 / 2010.
وموضع الاسى الشديد في جزئية الفساد هذه يكمن في افتراض ان هذه الهيئة (المستقلة) بالذات يجب ان تكون على اعلى درجات التحلي بالمسؤوليات الاخلاقية، ومن ذلك الالتزام الحرفي بمتطلبات القانون، والنزاهة لان هذه الهيئة تحديدا تمثل الحجر الاساسي في صناعة العملية السياسية والتداول السلمي للسلطة. ان مشروع معالجة الامراض الاجتماعية الناجمة عن الحقب التوتاليتارية يستدعي بناءا يمتاز بأسس مختلفة تماما عن التي سادت تلك الحقب، وبحسب تجارب الشعوب فان من امتن الاسس في بناء الدول الديمقراطية ما يتجلى بمبدأ المواطنة، هذا المبدأ الذي يتكفل بحفظ كرامة الانسان المادية والاعتبارية، ويمنع تشظي المجتمع الى جبهات متناحرة، ويوحد الهويات الفرعية بهوية رئيسة موحدة، مبنية على قاعدة الاحترام المتبادل هذه المرة، بدلا من قاعدة الخوف المتبادل.
|
|