العقر عند القبور واللواذ به في الشعر العربي
|
صاحب رسول حسين
كان للخيال الخصب والعاطفة الجياشة عند العرب في الجاهلية أثراً كبيراً في خلق وإفراز سنن وعادات كثيرا، أقرّ الإسلام ماهو صالح منها ورفض ماهو غير صالح. فمن تلك العادات والسنن التي تأثرت وأُثِر قسط كبير منها عن الأديان السالفة والحضارات الماضية، مسألة احترام الموتى، والارتباط بالقبور وتخليد مآثرهم إذ كانوا يعقرون عليها جِمالهم وينشدون عندها الاشعار ويعوجون عليها، إحساساً منهم بوجود المدفون معهم روحاً ومأثرة وإنه يرتبط أو أنهم يرتبطون معه بنحو من أنحاء الارتباط، قال ابن الأثير في النهاية ج2 ص366: (كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته) وزاد الزمخشري في الفائق ج2 ص178-179: (وقيل ليطعمها السباع، فيدعى مضيافاً حياً أو ميتاً) وقال مثل ذلك ابن منظور في لسان العرب ج4 ص593.
فالعقر على القبر عند العرب يعبّر عن معنى الكرم والجود والعطاء، وفيه محاولة إدامة إطعام الميت للفقراء والاضياف والنازلين وهذا ما جعلهم يعدّون ذلك من المفاخر الحميدة والمآثر الفريدة.
وكان لاعتقادهم الخالص هذا أثر في نسج القصص والاساطير حول كرامات الميت من ذلك ما رواه ابن قتيبة الدينوري في الشعر والشعراء ص147-148 حيث قال: (وقد ذكرت طيء أن رجلاً يعرف بابي الخيبري مرّ بقبر حاتم فنزل به وبات يناديه: يا أبا عدي أقرِ أضيافك، فلما كان في السحر وثب أبو الخيبري يصيح: وارحلتاه فقال له اصحابه: ما شأنك؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا انظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث فقالوا قد والله قراك فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا فبينما هم كذلك في مسيرهم طلع عليهم عَدِي بن حاتم ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره فقال: إن حاتماً جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه وأنه قراك واصحابك راحلتك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها علي حتى حفظتها وهي:
أبا الخيبريِّ وانت أمرؤٌ حسودُ العشيرة لوّامُها
فماذا أردت الى رمّةٍ بداويةٍ صخبٍ هامُها
تبغي أذاها وأعسارها حولك عوفٌ وأنعامُها
وأمرني بدفع جمل مكانها إليك فخذه، فأخذه) وقد نقل هذه القصة أيضاً الزبير بن بكار في الموفقيّات ص408-410 وابو الفرج الأصفهاني في الاغاني ج17 ص374-375 والبغدادي في خزانة الأدب ج1 ص494-495 والى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن حاتم:
أبوك أبو سفّانة الخير لم يزلْ لدنْ شبَّ حتى مات في الخير راغبا
به تضربُ الامثالُ في الشعر ميّتاً وكان له إذ ذاك حيّاً مصاحبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ولم يقرِ قبرٌ قبله الدهرَ راكبا
وسواء أكانت قصة حاتم من مختلقات طيء وورثة حاتم أم من الجن كما يقول الزبير بن بكّأر فإن مما لا ريب فيه هو أن العرب كانت تعقر عند القبور وترى لصاحب القبر حرمة وكرامة وتعدّ العقر والقرى عند قبر الكريم فخراً ما بعده فخر، فقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري عمرو بن الحارث الغساني والغساسنة فوصفهم مادحاً بأنهم يكرمون الأضياف عند قبر أبيهم فقال:
لله دَرُّ عصابةٍ نادمتهُم يوماُ بجُلَّقَ في الزمانِ الأولِ
أولاد جفنةَ عند قبر أبيهِمُ قبر ابن مارية الكريم المُفضلِ
يَسقون من ورَدَ البريصَ عليهم بَردَى يصفّق بالرَّحيقِ السلسلِ
يُغشون حتى ما تهِرّ كلابُهم لا يسألون عن السواد المقبلِ
وظلت هذه الفكرة مفخراً عند العرب حتى العهد الأموي فهذا قيس بن الملوح يعقر على قبر ابيه ناقته ويرثيه عند القبر قائلاً:
عقرتُ على قبرِ الملوَّحِ ناقتي بذي الرَّمثِ لا أن جفاه أقاربُه
فقلتُ لها كوني عقيراً فإنني غداةَ غدٍ ماشٍ وبالأمسِ راكبُه
فلا يُبعدنْكَ الله يا بن مزاحمٍ فكلُّ إمرئٍ للموتِ لا بدَّ شاربُه
فقد كنت صلاعَ النجادِ ومعطي الجيادِ وسيفاً لا تفلُّ مضاربُه
ويرثي زياد الأعجم المغيرة بن المهلّب بقصيدة يدعو فيها الى العقر عند قبره وإن ينضح قبره بدماء العقائر لأنه كان أخا دَمِ وذبائحٍ فيقول:
قل للقوافلِ والغزيِّ إذا غَزَوا والباكرين وللمجدِّ الرائحِ
إن المروءة والسماحة ضُمّنا قبراً بمروَ على الطريقِ واضحِ
فإذا مررت بقبره فأعقر به كُومَ الهجانِ وكلّ طِرفِ سابحِ
وانضح جوانب قبره بدمائها قلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ
ومن الطرائف أن يزيد بن المهلَّب قال لزياد: يا أبا أمامة، أفعقرت أنت عنده؟، قال: كنت على بنت الحمار. فيبدو أن العقر كان مجرد موروث قد اضمحل أو قلّ بمجيء الإسلام فما بقي إلا شيء يسير منه على أرض الواقع، وإنما بقيت الفكرة في ذهن وخيال الشعراء يستفيدون منها في المراثي والمفاخرات حتى اخذ الشاعر أحمد بن محمد الخثعمي وهو من الشعراء العباسيين معنى أبيات زياد الأعجم وتصرّف في معانيها ما شاء أن يحسن له التصرف، فقال:
أيها الناعيانِ من تنعيان وعلى من أراكما تبكيانِ
أندبا الماجدَ الكريمَ ايا اسحاق ربُّ المعروف والاحسانِ
واذهبا بي أن لم يكن لكما عقرٌ الى جنب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كان دمي من نداه لو تعلمانِ
ومن مظاهر الأنشداد الى القبور وتكريم صاحب القبر أن الرئيس المقدم والسري من الناس ومن له بيت من العز والشرف كان يعيذ من يستعيذ بقبر أبيه ويعفو عن ذنبه الذي يتجاوز الظلم والاسراف أحياناً، احتراماً وتقديراً وتكريماً لصاحب القبر وقد كان هذا شائعاً معروفاً في الجاهلية والإسلام ولقد عاذ كثير من الخائفين بقبور آباء الملوك والحكام كما لاذ المؤمنون بالأئمة الطاهرين (ع) وتحرّموا بحرمتهم فرفع عنهم السوء، ومن أروع ما قيل في هذا لاباب ما قيل في قبر الإمام الحسين (ع) حيث لاذ بعضهم بقبره الشريف وأنشأ يقول:
حسينٌ إذا ما ضاق رحبٌ من الدنى وحلّ بنا للفادحاتِ نزولُ
بقبركَ لُذنا والقبور كثيرةٌ ولكن من يحمي الذمارَ قليلُ
وفي هذا المجال نجد الفرزدق يبالغ في تكريم قبر أبيه غالب بن صعصعة فيقضي حاجة من يلوذ بقبر ابيه كائناً من كان وما كانت حاجته فقد ضرب مكاتَبٌ لبني مِنقَر بساطاً على قبر غالب أبي الفرزدق فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه ثم قدم عليه فقال:
بقبر ابن ليلى غالبٍ عذت بعدما خشيت الردى أو أن أُردَّ على قسرِ
فأخبرني قبرُ ابن ليلى فقال لي فكاكك أن تأتي الفرزدقَ بالمصرِ
فقال الفرزدق: صدقَ ابي، أنِخ ثم طاف له في الناس حتى جمع له مكاتبته وفضلاً وهجا ذو الأهدام الكلابي الفرزدق فهجاه الفرزدق ألذع هجاء فاستجارت أم ذي الأهدام بقبر غالب فقال الفرزدق في ذلك:
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب فلا والذي عاذت به لا أضيرُها
ولما ولي مالك بن المنذر شرطة البصرة هجاه الفرزدق بأشعار كثيرة يقول في بعضها:
يبغَّض فينا شرطة المصر أنني رأيتُ عليها مالكاً عَقِبَ الكلبِ
فقال مالك: عليَّ به فمضوا به إليه فلما احضر بين يديه قال: هيه (عَقِبَ الكلب)، قال الفرزدق: ليس هذا هكذا، وإنما قلت:
ألم ترني ناديتُ بالصوتِ مالكاً ليسمعَ لمّا عصّ من ريقه الفمُ
أعوذ بقبرٍ فيه أكفان منذرٍ فهنَّ لا بدي المستجيرين محرَمُ
قال: قد عُذت بماذ وخلّى سبيله. ومن هنا يتبين جلياً أن القبور – قبور النبلاء – كانت ملاذاً وموئلاً للعفو وسبباً للرحمة والتجاوز عن المسيء في الجاهلية والإسلام واختصت قبور ومراقد الأئمة الأطهار (ع) والصالحين.
|
|