ابن الجنان الاندلسي. . شاعر المديح النبوي
|
*علي ياسين
اجتمعت للشاعر ابن الجنان الاندلسي عدة مزايا لم تجتمع لشاعر في عصره فقد لمعت شاعريته واشتهر في عصر زخر بالشعراء الكبار لكنه أدرك مكانة متميزة بينهم لغزارة نتاجه الشعري الرصين كما تميز شعره بلغة جزلة متينة الالفاظ واسلوب متماسك التراكيب. اعتمد على فنون البلاغة لاسيما البديع وفنونه، كالجناس والطباق والمقابلة والتكرار ولزوم مالايلزم وغيرها من الفنون في عصر طغت فيه اللغة السهلة والاسلوب التقريري الذي اعتمد لغة التخاطب القريبة من لغة النثر منها الى اللغة الشعرية، كما تميز ابن الجنان بالادب الملتزم في زمن شاعت فيه موضوعات الشعر المنحرفة واغراضه المبتذلة كالغزل الماجن والهجاء الفاحش وغيرها، أما هو فقد انعكست مبادؤه وحسّه الديني والاخلاقي على شعره فغلب عليه طابع التوحيد والنبوة فكانت اكثر قصائده في (الإلهيات) و (النبويات) وقصائده في هذين الجانبين متلازمان فالشاعر حيثما يذكر الله يذكر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله خاتماً به قصيدته مصلياً ومسلماً، وكلما يمدح الرسول فهو يحمد الله على نعمة الاسلام.
كما تميز شاعرنا بأنه من ذوي المواهب المتعددة فضلاً عن براعته في الشعر واحرازه مكانة متميزة فيه فقد كان ناثراً مبدعاً تجلّى ذلك في مخاطباته ومكاتباته التي نقلتها المصادر والتواريخ، غير ان اهم مايميز شاعرنا هو كثرة قصائده وجودتها في مدح النبي صلى الله عليه وآله حتى عرف بشاعر المديح النبوي.
إنه ابو عبد الله محمد بن محمد بن احمد الانصاري القيسي المعروف بـ (ابن الجنان)، ويرجع في نسبه الى الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة الانصاري صاحب امير المؤمنين عليه السلام. ولد في مدينة مرسية في الاندلس في القرن السابع الهجري، (عصر الموحدين) حيث شهد خلال حياته في الاندلس مجد الدولة الموحدية كما شهد انحسارها وضعفها وتقوضها عبر احداث واضطرابات كثيرة يطول شرحها شهدتها الاندلس على الصعيد السياسي.
نشأ ابن الجنان نشأة ابناء عصره وقرأ في عهد مبكر القرآن الكريم وتعلّم احكامه وعلومه كما درس الحديث والعلوم الاخرى فضلاً عن الشعر فكان (محدثاً، كاتباً، بليغاً، شاعراً، بارعاً، وصف بجودة الخط وحسن الضبط والحفظ والاتفاق) كما وصفته كل المصادر التي ترجمة له، فأحرز مكانة متميزة وشهرة فائقة بين شعراء عصره ولكن رغم هذه الشهرة فان شعره لم يدوّن في حياته ولا بعد مماته، ففقدان دواوين الشعراء المغمورين البعيدين عن مدح السلاطين كان امراً مألوفاً حتى وان كانوا من كبار شعراء عصرهم كابن الجنان، وقد بذل الدكتور منجد مصطفى بهجت جهداً كبيراً لجمع شعر ابن الجنان من مصادره المخطوطة والمطبوعة فتكونت لديه اربع وخمسون قصيدة في الف وثلاثمائة بيت. فهناك اشارات للمؤرخين الى فقدان اشعار كثيرة للشاعر.
اما شعر ابن الجنان فقد توزع على موضوعات الشعر العربي واغراضه جميعها باستثناء الموضوعات التي ناقضت سلوكه الديني وسيرته القويمة والذي نشأ عليهما وعرف بهما فعزف عن هجر القول وباطله وتتصدر (النبويات) - مدح الرسول صلى الله عليه وآله- ديوانه واحتلت نصف الديوان تقريباً، فالشاعر هائم بحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وهو يتفنن في عرض زوايا حبه إياه بأفانين الاساليب وانماطها، فالرسول الأكرم كامن في ضميره، وهو يرجو بجاهه ان يتقرّب الى الله تعالى وأن يغفر بجاهه ذنوبه وهوالصادق في حبه إياه، يقول في احدى قصائده الكثيرة في هذا الباب وهو من اللزوميات:
أيذهب يوم لم أكفّر ذنوبه
ولم اقضِ في حق الصلاة فريضة
أرجّي لديه النفع في صدق حبه
واهدي الى مثواه مني تحية
ــــــ العجزــــ
بذكر شفيع في الذنوب مشفّعُ
على ذي مقام في الحساب مرفّعُ
ومن يربح المختار لا شك ينفعُ
اذا قصدتْ باب الرضى لم تدفع
ـــــ
ويقول في (مشفّعة) أخرى متوسلاً بالرسول الكريم صلى الله عليه وآله ويمزج في قصائده بين الدعاء الى الله سبحانه والتضرع إليه والتوجه الى الرسول بطلب الشفاعة:
ياأرحم الخلق يوم الحشر والندمِِ
إني توسلت بالمختار ملجأنا
فهو الشفيع الذي ارجو النجاة به
ــ العجز ـــ
ارحم عبيدك يا ذا الطول والنعمِِ
الطاهر المجتبى من خيرة الامم
من الجحيم اذا الكفار كالحمم
ـــ
وبلغت شهرة ابن الجنان في المديح النبوي انه عندما أراد ابن المرابط تأليف كتابه (زواهر الفكر وجواهر الفقر) سأل شاعرنا ان يتحفه بأبيات في مدح الرسول يفتتح بها كتابه، فالرسول الأكرم هو مفتاح ابواب الخير وبه يدرك اليمن وتنال البركة وتدرك الغايات السامية فارسل إليه شاعرنا هذه الابيات:
ابدأ مقالك بالثناء على النبي
واجعل وسيلتك التي ترجو بها
ختام ديوان الرسالة والهدى
ـــ العجز ــ
يزكو شذا مسك الختام ويعبقُ
درٌ على جيد المحامد ينسقُ
فبه تروقُ الناظرين وتؤنق
ـــ
وتتجلى في مدائحه للرسول صلى الله عليه وآله سياق وعد صفات الرسول الكريم فهو امام المسلمين وابهر الخلق وصفاته اعجزت اهل البراعة ان يصفوها ويدركوا كنهها:
بخاتم الرسل اعني
لا بهر الخلق مجداً
لمن صفات علاه
ــ العجزـــ
امام تلك الجماعة
يحكي الصباح نصاعة
تُعجز أهل البراعة
ــ
واسمى سبيل يمكن ان يقدمه الانسان المسلم للرسول الكريم فيما جاء في الآيات والاحاديث النبوية الشريفة يكمن في توجيه الله تعالى للمسلمين بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وآله بقوله "ان الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" فالآية الكريمة تتضمن فعلي الامر (صلوا وسلموا) ولذلك يتجلى هذا الامر واضحاً لدى شاعرنا حيث جسد ذلك في ثلاث قصائد كانت الغاية والهدف من مضمونها هو الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله. استهل في الاولى مقدمتها بجملة (صلوا على) وانساقت في محورين: الاول يقوم على تعداد خصاله السامية وصفاته الرفيعة والآخر يقوم على اساس تفرده بالمعجزات الخارقة يقول فيها:
صلوا على خير البرية خيماً
صلوا على من شرّفت بوجوده
صلوا على نور تجلّى صبحه
صلوا على هاد أرانا هديه
صلوا عى هذا النبي فانه
ــ العجز ـ
واجل من حاز الفخار صميما
ارجاء مكة زمزماً وحطيما
فجلا ظلاماً للضلال بهيما
نهجاً من الدين الحنيف قويما
من لم يزل بالمؤمنين رحيما
ـــــ
ومن النمط الثاني قوله:
وبدت شواهد صدقه قد قسّمت
والشمس قد وقفت له لما رأت
كم آية نطقت تصدق احمداً
والجذع حن حنين صبٍ مغرم
ـــ العجزــ
بدر الدجى لقسيمه تقسيما
وجهاً وسيما للنبي وسيما
حتى الجماد أجابه تكليما
اضحى للوعات الفراق غريما
ــ
ويختم هذه القصيدة بقوله:
ياأيها الراجون منه شفاعةً
ــ العجزــ
صلّوا عليه وسلموا تسليما
ـــ
اما قصيدته الاخرى فقد جعلها مخمّسة وهي الوحيدة من هذا النمط في ديوانه، فقد بنى شطرها على جملة (صلوا عليه وسلموا تسليما) في تسعة وعشرين مقطعاً وتقوم ايضاً على المحورين المتقدم ذكرهما: فمما جاء من المحور الاول:
الله زاد محمداً تكريما
وحباه فضلاً من لدنه عظيما
واختصه في المرسلين كريما
ذا رأفة بالمؤمنين رحيما صلو عليه وسلموا تسليم
جلّت معاني الهاشمي المرسل
وتجلّت الانوارُ منه لمجتلي
وسما به قدر الفخار المعتلي
فاحتل في افق السماء مقيما صلوا عليه وسلموا تسليما
ـــ
اما ما جاء من المحور الثاني فقوله:
بركاته أربت على التعداد
كم اطعمت من حاضر أو باد
من قصعة اوحشية من زاد
رزقاً كريماً للجيوش عميماً صلوا عليه وسلموا تسليما
ويختم هذه القصيدة (المخمسة) بقوله:
ياسامعي اخباره ومفاخره
ومطالعي آثاره ومآثره
ومؤملي وافي الثواب ووافره
إن شئتم فوزاً بذاك عظيما صلوا عليه وسلموا تسليما
ـــــــــ
اما قصيدته الثالثة فهي الدالية المعروفة بـ (القصيدة المباركة الشريفة وهي في مئة واربعين بيتاً وهي اطول قصيدة للشاعر وقد دارت على ثلاثة محاور هي تعداد معجزاته صلى الله عليه وآله والامور الخارقة التي اجراها الله على يديه الشريفتين صلى الله عليه وآله والاشادة بمقامه عند الله ومنزلته الخاصة ثم يتحدث الشاعر عن شمائله وكريم صفاته وخصاله والقصيدة فريدة من نوعها يبدأ الشاعر كل بيت منها بكلمة (سلام على) يبدؤها الشاعر بقوله:
سلام عى من جاء بالحق والهدى
سلام على خير البرية شيمة
سلام على المختار من آل هاشم
سلام على زين النديّ اذا انتدى
ــــ العجزـــ
ومن لم يزل بالمعجزات مؤيدا
واكرمها نفساً وبيتاً ومحتدا
اذا انتخبوا للفخر أحمد أمجدا
واجمل ذي حلم تعمم وارتدى
ــ
ويسترسل الشاعر في تعداد معاجز الرسول صلى الله عليه وآله فيقول:
سلام على الداعي (علياً) لراية
سلام على من اخبرته بخيبر
سلام على من دافعت عنه منعة
سلام على من اعشيت اعين العدا
سلام على ملقي التراب عليهم
ـــ العجزــ
على آيةٍ كانت لعينيه أثمدا
ذارعُ سميط اودعت سمّ اسودا
ترد وتردي كل غاوٍٍ تمّردا
وقد بيتوه قصد فتكه رصدا
ومبقٍٍ (علياً) في الفراش موسّدا
ــ
وفي نهاية القصيدة يتشوق الى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وشوقاً شديداً فيقول:
سلام عليه ان ذكراه جددّت
سلام عليه ان نفسي مشوقةٌ
سلام عليه هل تتاح زيارة
ــ العجزــ
غرامي ومازال الغرامُ المجددا
إليه فهل يدني اشتياقي أبعدا
توفّي الوفاء الحق عهداً ومعهدا؟
ـــ
لقد كان شاعرنا ابن الجنان بحق شاعر المديح النبوي في عصره بدون منازع وجاءت قصائده غصناً مورقاً من شجرة المديح النبوي بكل خصائصها وسماتها الفنية وصياغتها واسلوبها ومعانيها تنبئ عن صدق التجربة الشعورية لدى شاعرنا، لنقرأ هذه القطعة من قصيدة في توحيد الله تعالى والثناء عليه وتقديس ذاته ثم يذكر الرسول الكريم فيقول:
صلى على من تبدى
ومن علا الفخر لما
محمد خير هادٍ
محمد خير داع
محمد خير مبدٍ
ــ العجزــ
نور الهدى من سماته
نمى الى معلواته
بحلمه واناته
بالصدق من كلماته
لنا سنا معجزاته
ــ
كما تجلت في قصائده المناسبات الدينية كموسم الحج وشهر رمضان المبارك وغيرهما وفي هذه القصائد يمدح شاعرنا النبي ويعدد فضائله ونعمه على المسلمين ففي قصيدته في الحج يصف ركب الحجيج المتوجه الى مكة المكرمة فيغبطهم على التشرف بضيافة الله عزوجل فيقول:
فلله ركب يمموا نحو مكة
أنا خوا بأرجاء الرجاءِ وعرّسوا
فبشرى لهم كم خوّلوا من كرامة
ــ العجزـ
لقد كرموا قصداً وجلوا مناسجا
فأصبح كلٌ مايز القدح فالجا
فكانت لماقد قدموه نتائجا
ـــ
ويتشفع في نهاية القصيدة بالرسول الكريم فيقول:
لعل شفيعي ان يكون معا جلا
فينشقني بين الإله نوافحا
فما لي لآمالى سوى حب احمد
عليه سلام الله من ذي صبابة
ــ العجزــ
لداء ذنوب بالشفاء معالجا
ويعبق لي قبر النبي نوافجا
وصلت له من قرب قلبي وشائجا
حليف شجا يكنى من البعد ناشجا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اما في شهر رمضان فيقول:
فلله من شهر كريم تعرضت
ففي بينه بين شجونك معلما
وان قضيت قبل التفرق وقفة
ــ العجزــ
مكارمه الا لمن كان اعرضا
وفي اثره ارسل جفونك فيضا
فمقضيها من ليلة القدر ماقضى
ــ
ثم يفرد القطعة الاخيرة من القصيدة لمدح النبي صلى الله عليه وآله فيقول :
فيا حسنها من ليلة جل قدرها
لعل بقايا الشهر وهي كريمة
وقد كان اصفى ورده كي يفيضه
وقال اطلبوها تسعدوا بطلابها
جزاه إله العرش خير جزائه
ــ العجزـــ
وحض عليها الهاشمي وحرّضا
تبين سراً للأواخر اغمضا
ولكن تلاحى من تلاحى فقّيضا
فحرك أرباب القلوب وانهضا
واكرمنا بالعفو منه وبالرضا
ــــــــــــــــــ
ويمزج شاعرنا في مديحه للنبي صلى الله عليه وآله بين الدعاء الى الله والتضرع له والتوجه الى الرسول بطلب الشفاعة حتى عدّ اقتران ذكر الرسول صلى الله عليه وآله والوسيلة هي السمة الطاغية على شعره يقول في قصيدة له:
الى احمد المختار نهدي تحية
اذا نافحت معناه زاد تأرّجا
أُسيّر اشواقي رسولاً بعرفها
وارجو لديه الفضل فهو منيله
ــ العجزــ
تفاوح روض الحزن بللّه المزنُ
وان لثمت يمناه قابله اليمنُ
لتسعدها منه العوارفُ والمن
وما خاب لي منه الرجاء ولا الظن
ــ
وليس بوسعنا ان نلم بقصائده النبوية جميعها ونرجو ان نكون وفقنا في عرض ابرزها فقد كرس الشاعر براعته وسخر قريحته في مدح الرسول الكريم وطلب شفاعته ولا يزال يلهج بذكره الشريف حتى مات عام 648هـ.
|
|