قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ثنائية الفكر والحركية في تفسير المرجع المدرسي *الشيخ محمد علي الحرز لم يسر المفسرون السابقون منهم والمعاصرون في طرقهم بين التفسير المطول الذي يعنى بالبحوث القرآنية التاريخية والعقائدية والاخلاقية، وبين المنهج المقتضب الذي يكتفي بمرور عابر على مجمل الآيات، ويكتفي في معظم الاحيان بالتفسير اللغوي وفي المسلك التفسيري نفسه تصطف أمامنا مدارس في طرق الفهم القرآني الذي هو منبع صافٍ يتماشى مع جميع الأذواق والمشارب. فهناك التفسير الصوفي والعرفاني لمحيي الدين بن عربي. وهناك التفسير الروائي ويبرز به السيد هاشم البحراني. وهناك التفسير العلمي كتفسير المنار لمحمد رشيد رضا. وهناك تفسير القرآن بالقرآن ويطالعنا به العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان. وأخيراً التفسير التربوي والفكري الذي حاول أن يتميز به سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) في تفسيره الرائع (من هدى القرآن)، هذه الثنائية: الفكر والحركية، المنهج الذي خطه في تفسيره من بداية الانطلاقة في هذا المشروع، فالقرآن إنما جاء لبناء الفكر وخلق منهج وطريق للإنسان المسلم يسير معه في جميع أدوار حياته، والتتلمذ على مدرسة القرآن يتطلب فكراً صافياً وقلباً واعياً للولوج في حرم القرآن والتربية في مدرسته. وقد تجلت هذه الحقيقة بالنسبة إليه في عدة جوانب من تفسيره، ففي قوله تعالى: "هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (سورة الاعراف / 203). يأخذ سماحته من الآية المباركة عدة حقائق ابرزها: 1- إعطاء المؤمن بصائر تمكنه من رؤية الحقائق مباشرة ومن دون حجاب. 2- في القرآن رحمة وفلاح لمن آمن به واتبع هداه. (1) 3- البناء الفكري في السياق القرآني لا ينفك عن الجانب السلوكي للمؤمن، فالقرآن جاء ليكون كتاب هداية في الرؤية واكتساب المعارف بعد تمزيق الحجب وكشف الخفايا، وفي الوقت نفسه هو وشاح سلوكي ومنهج عملي، وإلاّ أفرغ الكتاب العزيز من محتواه والمعنى السامي الذي نزل من أجله. ثم يؤكد سماحته الحقيقة نفسها ضمن رؤيته للدور القرآني: فإذا عرف المخلوق خالق، وعرف أسماءه الحسنى، استطاع أن يعرف من خلالها سنن الله في الطبيعة والحياة، و بمعنى ان قوانين الله جميعا تجري ضمن حكمة بالغة، وأن الإنسان كلما استطاع تطبيع هذه الحكمة، استطاع أن يتجنب مزالق الحياة ويتجاوز عقباتها. (2) هذه الثنائية القرآنية بين الفكر والعمل درجت عليها آيات الذكر الحكيم وفق المنظور القرآني بحسب تفسير (من هدى القرآن)، وإن الانفكاك بينهما يُفقد القرآن رسالته وجوهره الذي جاء من أجل بناء أمة أفضل. ولتكون الرؤية أكثر وضوحاً يعطي سماحة المرجع المدرسي في تفسيره الهدف الأسمى من نزول القرآن والذي تلخصه الآية الكريمة: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (الجمعة/2). فالآية وضعت لنا محورين للرسالة: (التزكية) و (التعليم) فما المراد من هاتين الكلمتين في القرآن؟ ثم يضيف سماحة السيد المدرسي فيقول: التزكية: هي تنظيف النفس البشرية من رواسبها الجاهلية، سواء كانت من الافكار الباطلة، أو المعتقدات الفاسدة، أو الاخلاق السيئة. والتزكية هي تربية الإنسان المتكامل الذي يفجر طاقاته العقلية والجسدية جميعا باتجاه الخير والحق، بينما التعليم يهدف إلى إضافة المعرف الجديدة للإنسان، لدفع عجلة البشر الى الامام، وهو يعتمد على طاقة العقل الكامنة فيه. فالعلاقة بين العلم والتزكية تشبه الى حدٍ بعيد العلاقة بين ماكنة السيارة وبين الوقود الذي تتزوّد بها، اذ التنظيف يزيل المواد الضارة فيها، بينما الوقود يضيف المواد الجديدة. (3) قرآنٌ للجميع ولا يرتضي سماحة المرجع المدرسي الفئة المتقاعسة من الناس عن النهل من القرآن بحجة تعالي القرآن عن الإدراك العام، وأن استكشاف بطونه مقصور على ذوي العقول الراجحة والعلوم الراسخة من الرسول الاكرم واهل بيته الطاهرين عليهم السلام، وحتى فئة العلماء المفسرين والمثقفين. هذا التصور الخاطئ كان عقبة وحاجزا امام اقتراب الناس من القرآن الكريم، الكتاب الذي أنزله الله للجميع، من رب الجميع، العالِم بعقولهم وإدراك كل منهم، ومع ذلك قال تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد /24). يقول سماحة السيد المرجع في طبيعة العطاء القرآني وتفاوت فهم بصائره: ومن هذه الزاوية، كان القرآن الكريم كتاباً لكل الناس ولكل العصور، وكل فرد يستفيد حسب مستواه وموقعه؛ تماما كما الغيث ينزل من السماء، حيث تسيل منه الاودية بقدرها فالوادي الواحد يستوعب بقدره هو لا بقدر الغيث، الذي يستطيع استيعاب كل الامكنة. ولما كان القرآن الكريم كتابا ذا مرونة فائقة، فإنه قد سلب من الانسان اعذاره الواهية التي قد يرفع عقيرته بها فيهجر القرآن بداعي عدم فهمه له مثلا، او إيكال ذلك للعلماء والمفسرين والمثقفين فقط. كلا...! فالقرآن الكريم كتاب الجميع، نازل من عند خالق الجميع. (4) بمعنى ان العصارة القرآنية المعرفية تسير على نهج الغيث تماما كما الغيث ينزل من السماء، حيث تسيل منه الاودية بقدرها. وهذا لا ينفي وجود تلك الفئة التي حباها الله بالفهم القرآني، فمن خلال فهم الامثلة القرآنية، وفهم الحقائق المتصلة بها يستطيع الانسان ان يكون حكيما، "يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ" (البقرة /269)، فالحكمة هي من بين المصاديق البارزة للمعرفة القرآنية. والعلم يعطي الإنسان المؤمن مرتكزات هامة، له تأثر كبير وواسع على حياة الإنسان وتعاطيه من مختلف القضايا الحياتية من أبرزها أولاً: الابتعاد عن الرذائل فهي حقيقة جلية يؤكدها آية الله العظمى السيد المدرسي في تفسيره، فالعلم باعث الانسان على الايمان والتقوى. يقول في تفسير قوله تعالى: "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (التغابن/4). إن الآية تتضمن تأكيد الله على علمه المحيط بحياة الانسان يتصل بمنهج الإسلام التربوي القائم على أساس زرع الوازع الديني في نفوس المؤمنين، فإن المتحسس لرقابة الله عليه لن يقتحم المحرمات والمعاصي، ولن يتخلف في أداء الواجب. وهذه المنهجية ذاتها هي التي تضع نهاية للخداع الذاتي (المنافقة)، حيث تضع الانسان امام يقين بعلم الله بذات صدره، وان جزاءه للناس لايعتمد على أعمالهم واقوالهم الظاهرة فحسب، انما يعتمد على ما في القلوب من النوايا والخفيّات ايضاً. (6) إذن؛ فالعلم والمعرفة توجد لدى الانسان دافع نحو الفضيلة والخوف من الله الذي يعلم ويرى خبايا القلوب وما تخفيه الصدور. ثانياً: تدفع الانسان نحو التكامل ان آفاق المعرفة متعددة ومختلفة، والانسان بطبيعته ينشد التكامل والرقي وما سعيه في هذه الحياة الا اندفاع نحو التكامل بالوجهة التي يؤمن بها، ولكن تبقى مسألة التكامل متفاوتة، فلا يصل الانسان الى الدرجات العليا الا باتباع الخطوات الصحيحة التي بيّنها الخالق، والمعرفة يأتي أكلها بالتوكل على الله، يقول تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً" (الطلاق /2). يقول المرجع المدرسي (حفظه الله): (ان آفاق التقدم لا تحد وان قدرات الانسان على التكامل عبرها لا تحصى، وإنما اليأس وسائر الاغلال والأصر تقيّد البشر من الانبعاث، ولو عرف الانسان قيمة التوكل على الله فاتقى ربه لرزقه من حيث لا يحتسب). (7) ثالثاً: إتقان العمل لايكون العمل متقناً إلا بمعرفة السبيل الى ذلك، ومن هنا كان الانبياء والأئمة صلوات الله عليهم اكثر الناس اتقاناً للعمل، فمن يحسن معرفة الطريق اختصر الطريق اليه، فالله سبحانه وتعالى يقول: "هُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" (هود /7). وفي نظرة تأملية من المرجع المدرسي نحو الآية الكريمة يؤكد هذه الحقيقة الهامة لما تعطيه المعرفة للانسان فيقول: ولعل أظهر تأويل لهذه الآية هم الانبياء والرسل وأئمة الهدى من اهل بيت رسول الله، حيث انهم جميعاً كانوا الاحسن عملاً بين خلق الله، فهم ابرز الحكم الالهية للخالق، أليس قد اظهرت البلايا انهم القمم المضيئة، والذرى المتسامية؟ وان الله تعالى ما اختارهم ولا اصطفاهم إلا بعلم وحكمة، وما جعلهم سادات البشر وأمراء الصالحين من عباده إلا لأنهم السابقون في طاعة الله. (8) هذه الطاعة الخالصة لله إنما هي وليدة المعرفة العميقة بعظمة الخالق، وشدة الفقر اليه، وهي الجنبة التي أهلت أهل بيت النبوة لأن يكونوا سادة الخلق، فأمير المؤمنين يقول: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا). القرآن منهج عمل ولا يفصل المرجع المدرسي في منهجه التفسيري بين فهم القرآن وتطبيقه، فالثنائية الحركية والفكرية أمر ينبع من عمق الفكر القرآني ومن أهم أولوياته، فالقرآن كالشمس التي تشرق كل صباح فتملأ الدنيا ضياء، ولكن لينير لنا الدرب ونسير في ركب الحياة على هدى وبصيرة للوصول إلى الهدف المنشود، ومن دون هذه المزاوجة، واستمداد الأشعة القرآنية، يكون الانسان كمن يسير في مهاوي الردى. ولكن السيد المرجع يبين رؤيته عبر استنطاق القرآن الكريم وتطبيقه على جميع ابعاد حياتنا العملية فيقول لتقريب الصورة: ولا يغيب عنا أن القرآن كما الشمس تشرق على كل يوم جديد. لذا نجد أن القرآن لم ينزل على إنسان دون غيره، أو أمة دون سواها، بل أنزله الله للبشرية كافة، وهو يجري فيمن يأتي كما جرى فيمن مضى. فلنقرأ القرآن ولنطّبق آياته على أنفسنا وعلى الناس والحوادث والمشاكل والحالات النفسية، حتى نعرف الحياة بصورة أدق. وقراءة القرآن دونما تطبيق، أو ممارسة الحياة دونما قرآن، ليس إلاّ هجراً للقرآن، وليس إلا تضييعاً للحياة. (9) ـــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش: 1- (من هدى القرآن)، الطبعة الثانية ج1 - ص36. 2- نفس المصدر ص37. 3- نفس المصدر ج1 - ص71. 4- (في رحاب القرآن) المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي - ص12. 5- (من هدى القرآن) الطبعة الاولى ج16 - ص16 6- نفس المصدر ص64. 7- (من هدى القرآن) ج16 – ص140. 8- (في رحاب القرآن) ص 14. 9- (من هدى القرآن) ج16 – ص4 ــــــــــــ *مانشيت: القرآن الكريم كتاباً لكل الناس ولكل العصور، وكل فرد يستفيد حسب مستواه وموقعه؛ تماما كما الغيث ينزل من السماء، حيث تسيل منه الاودية بقدرها فالوادي الواحد يستوعب بقدره هو لا بقدر الغيث ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ