مقامات الهمذاني... النواة الاولى للقصة القصيرة
|
* منذر الخفاجي
يمثل الادب العربي نماذج كبيرة في كل باب وصور رائعة في كل فن عبّرت عن قدرات خلاّقة امتدت جذورها في عمق التاريخ حتى استطاعت ان تصنع لنفسها قاعدة في كل مجال وركيزة في كل فن وموقفا عند كل فكر وبقيت هذه الآثار مادة مهمة لخلق ادب عربي واسع الآفاق شديد الصلة ملتزم الاهداف والغايات تستمد منه الاجيال نواة ابداعها لانها عبّرت عن واقع الامة الاجتماعي والفكري والسياسي.
ويمكننا القول ان فنون الادب العربي جميعها لم تبلغ العصر الذهبي لها إلاّ في القرن الرابع الهجري فالعصر الذي عاش فيه المتنبي والتهامي والشريفان وابو فراس وكشاجم والمعري والقاضي والجرجاني وابن هانئ وابن جني والتوحيدي وابن دريد وبديع الزمان والصابئ. لحقيقٌ ان يسمى عصر العصور الادبية فقد تكوّن من انجازات هؤلاء العباقرة ارث ادبي عظيم لم يرَ مثله في العصور السابقة ولا اللاحقة، كما يمكننا القول ايضا ان من ابرز هذه الانجازات الادبية التي تحققت في ذلك العصر هي المقامات التي ابدعها بديع الزمان الهمذاني والتي كان لها ابعد الاثر في الادب العربي، فقد كان للهمذاني الخلق والابداع في هذا المجال لا يدانيه فيه أحد. فهو الذي ألبسها هذا الطراز الموشّى وعلى طريقته سار من جاء بعده.
وقد كوّنت هذه المقامات معرضاً لصور الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية لذلك العصر كما عالج فيها الهمذاني الازمات النفسية والعقد السايكولوجية التي كانت متفشية في زمنه ومحيطه كما نرى في (المقامة المضيرية) التي هي عبارة عن قصة عصرية قصيرة قد تنوء عن مضارعتها القصة القصيرة في الزمن الحالي لما حملته من تحليل الشخصيات ودرس النفسيات ففيها يصف وصفا دقيقا احوال التجار البخلاء في ذلك الوقت بأسلوب (فنتازي) ساخر يصل الى حدّ التهكم واجواء مضحكة مبكية في آنٍ واحد يستشف منها القارئ الاوضاع الاقتصادية التي كان يمر بها الناس في ذلك الوقت وانقسامهم الى طبقتين الاولى هي التي استفادت من الاحداث التي مرت بها الامة من مجاعات واضطرابات. والثانية التي كانت ضحية هذه المجاعات والاضطرابات ففقدت كل شيء.
اما في (المقامة الجاحظية) فيصف حالة الاديب الفقير الذي لايجد قوت يومه وهي من المقامات الفكاهية بينما نجد في المقامة القريضية يعطي الهمذاني شخصية بطلهِ براعة ادبية فيجعله اديبا كبيرا وناقدا حاذقا في اعطائه المواقع الشعرية لاصحابها عندما يصف شاعريتهم وصفاً دقيقاً، فامرؤ القيس فَضَل من تفتقّ للحيلة لسانه وانتجع للرغبة بنانه، والنابغة يثلب اذا حنق ويمدح اذا رغب، و زهير يذيب الشعر والشعر يذيبه ويدعو القول والسحر يجيبه وطرفة ماء الاشعار وطينتها وكنز القوافي ومدنيتها، وجرير أرقُ شعراً والفرزدق أمتن صخراً، ثم يجمل الوصف والمقارنة بين المتقدمين والمحدثين بقوله: (ان المتقدمين اشرف لفظا واثر من المعاني خطا والمتاخرين الْطف صنعا وارق نسجاً).
ولعل القارئ يشاركنا الرأي بأن هذه المقامة تعد من اروع المقامات الادبية خاصة ان المؤلف ادخل الحوار الفني (السيناريو) في ثنايا الوصف واضفى عليها الصيغة الادبية فاضاف عليها هذا الفن بصورته الجديدة، صورة قصْصية مبتكرة كما تدلنا هذه المقامة على ان الادب الجاهلي والاموي كان مدار حديث الشعراء والادباء في ذلك الوقت اما في المقامة البشرية فقد جعل الهمذاني بطله تاريخيا حقيقياً البسه لباس الاسطورة ليضفي على مقامته او بالاحرى قصته روح التشويق والاثارة فضلا عن العبرة التي يستشفها القارئ من هذا التصوير، اما (المقامتان الاسدية) و (الفزارية) فتُعدان من القصص ذات التشكيل الحكواتي والتي تشبه الى حد بعيد قصص الف ليلة وليلة ولعل اروع اطار صنعه الهمذاني في مقاماته هو ايجازه للمقامة المكفوفية حيث يرسم فيها صورة بوهيمية لبطله اشبه بشخصية زوربا في الرواية المشهورة لكازانتزاكي اما في مقامتيه الجرجانية والبصرية يصور لنا الهمذاني طبقة من الناس اشتهرت في ذلك الوقت يمكن ان نسميهم اليوم (شحاذين بشرف) وفي مقامته الوصية فهي تعبير عن واقع خبره الأب وذاق مرارته وتلوى بشظفه وبؤسه فراح يوصي ولده بوصايا فهي من نتاج هذا الواقع ولعل ما جاء في نهاية هذه الوصية ما ينبئ ويكشف الاوضاع في ذلك الوقت عندما اوصى ولده بقوله: خذ كل مامعهم واحفظ كل معك! اما المقامات الناجمية والنيسابورية والخلفية والملوكية والتميمية والسارّية فقد جلاّها بابدع اسلوب واروع بيان فكان فيها الجناس على غاية غايات الابداع والبديع في اعلى مقام ولم يقف البديع عند هذه المقامات بل جمع في المقامة الحمدانية جميع اوصاف الخيل المتفرقة في منظوم العرب ومنثورهم ثم يضفي عليها لونا آخر بخلق الجو القصصي المبتكر كما نجد ابراز الجو الشعري من خلال الابيات المبثوثة في ثنايا هذه المقامات والدلالة على دور الشعر في البناء الفكري للمجتمع.
ان صورة الحوار الذي كان يستخدمه الهمذاني في مقاماته لم يقف عند حدود ابراز الصفات النفسية والسايكولوجية بل كان اطاراً عاماً لكثير من نوازغ النفس الإنسانية وكان هذا الاطار يجد الاستجابة النفسية الكاملة، ولهذا كان يأخذ الشكل الشامل لطبيعة المشاعر ويستوعب الصورة مهما كان بعدها كما نجد في تصوير الهمذاني للعادات والتقاليد المألوفة في ذلك الوقت وصبها في قوالب جديدة بعيدا عن التقريرية الرتيبة والاسلوب التقليدي الممل كما نجد في المقامات الشعرية والعراقية والدينارية والتي بدا فيها قد انطلق عن رغبته في التجديد ونزوعه نحو ايجاد صيغ جيدة تتفق مع القالب الذي يعي الى تحقيقه كما نلمح ومضات لصور جديدة اهتدى اليها خياله خارج حدود العصر في المقامة السجستانية وكذلك في المقامة الرصافية وتشكل المقامات القردية والارمنية والمجاعية امتداداً قصصياً آخر وبناءً فنياً اعتمد فيه الحوار الادبي وتخللته الاوصاف الدقيقة والالوان والطبائع والاحوال وملامح واضحة في توسيع افق الصورة.
لقد كانت هذه المقامات فعلا آية من آيات الادب العربي ومعجزة من معجزاته كما قيل عنها فكانت خطة المقامات التي ابدعها الهمداني والتي ترتكز على البديع قد جعلت بعض الكتاب من يفضله حتى على الجاحظ ولعل لهم الحق في ذلك لما اشتملت عليه مقاماته من القوالب البيانية والمحسنات اللفظية والاستعارات والتشابيه والكنايات والمجانسة والتلميحات والاشارات والتي تكون اشد تأثيرا في النفوس فالهمذاني اديب فنان يعرف كيف يبتدئ وكيف ينتهي ويلاحظ نهايات مقامته كقوله في مقامته الرصافية: (وفتش الغلام البيت فلم يجد سوى البيت) وهذا الفن قد انفرد ومقاماته عندما قال في مقدمة مقاماته: (سبّاق غايات وصاحب آيات) لقد اعتمد الهمذاني في عدم التفات الدارس الى فن القصة داخل هذا الفن فنفس البديع المشتعلة تشغل القارئ عن الحكايات والموضوعات والاشارات ووصف الشخيصات التي تجد الآن اُناساً كانهم ابطال مقامات بديع الزمان الهمذاني فالناس هم في اي وقت وفي اي مكان فالمقامة قصة قصيرة متكاملة الادوات في لغة ذلك العصر والفرق بينها وبين القصة القصيرة اليوم كالفرق بين ملابسك اليوم وملابس جدك وحسب الهمذاني انه وضع النواة الاولى للقصة القصير في الادب العربي.
|
|