عبد المنعم الفرطوسي. . شاعر العقيدة
|
*علي ياسين
النجف الاشرف منارة العلم الاسلامي ومركز اشعاعه الوضّاء، فلم تزل هذه المدينة التي تشرّفت بمثوى سيد البلغاء والمتكلمين في كل عصورها، زاخرة بأكابر العلماء وصفوة العباقرة والادباء. ولهذه المدينة المقدسة خصيصة تميّزت بها عن باقي المدن فهي منبع العلم ونهل الفكر ومنجم الادب وجذوة الشعر وقد حافظت على ثقافة القرآن الكريم في عهود مظلمة طغت فيها التيارات الاجنبية المستوردة على البلاد الاسلامية وتحكمت بها الافكار الدخيلة تبعا للسيطرة الاستعمارية، فصمدت هذه المدينة الخالدة بوجه تلك التيارات وبقيت مناراً شامخاً تنير سماء الادب والعلم وتغذي العقول وتفيض بالعلوم فأنجبت أعظم شعراء العربية وأعظم قادتها ومفكريها. وقد امتازت المدرسة النجفية عن غيرها، كون خريجيها الى جانب فضلهم العلمي والفقهي والاصولي فأنهم تسنموا ذروة الادب العربي فكان من ضمن العلماء الكبار الذين اضافوا الى علميتهم الصبغة الادبية العالية حتى ليحس القارىء لهم انهم قد تفرغوا لهذا الجانب، السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد محمد حسين الحلّي، كما كان لشعرائها جوانب علمية مضيئة وكان من الذين طغى الجانب الادبي على الجوانب العلمية الاخرى شاعرنا العلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي الذي جمع بين العلم والادب وقد عرفته الاوساط العلمية في النجف الاشرف مدرسا للفقه والاصول كما عرفته شاعراً بارزاً من شعرائها الكبار وفي طليعة مدرستها الشعرية كما عرفته ايضا مجاهداً صلباً في مواقفه الدينية والوطنية والاجتماعية المشرفة.
ولد شاعرنا في قرية تسمى (الرقاصة) من ناحية المجر الكبير في مدينة العمارة عام1335هـ 1917م وهي نفس السنة التي هاجر فيها والده الشيخ حسين مع افراد اسرته من النجف الاشرف الى العمارة اثر الاضطرابات والحوادث الناشئة من احتلال الانكليز بغداد. وتنتمي اسرة شاعرنا الى (آل فرطوس) وهي قبيلة عربية تقطن في مناطق جنوب العراق وترجع في النسب الى آل غزي وكانت أسرة الفرطوسي قد هاجرت من العمارة الى النجف الاشرف في عهد جدها الاكبر الشيخ حسن مؤسس الاسرة العلمية وقد برز من هذه الاسرة الكريمة العديد من اعلام الفقه والادب منهم الشيخ حسن ـ جد شاعرنا ـ صاحب كتاب (مرآة الفقه والفقاهة) وقد ترجم له المحقق الكبير الشيخ محمد حرز الدين صاحب كتاب (مراقد المعارف) في كتابه (معارف الرجال) فقال : (هو الشيخ حسن الفرطوسي نجل الشيخ عيسى نجل الشيخ حسن المعاصر للشيخ الكبير جعفر كاشف الغطاء مستجاب الدعوة). ويظهر من هذه الترجمة ان هجرة هذه الاسرة كانت في القرن الثاني عشر الهجري لان وفاة الشيخ كاشف الغطاء كانت عام 1228هـ وكان الشيخ حسن الفرطوسي ـ جد شاعرنا ـ الذي ترجم له الشيخ حرز الدين من مشايخ اجازة الشيخ حرز الدين في الاجتهاد.
نشأ شاعرنا في محيط علمي ـ ادبي وترعرع في احضان اسرته العلمية فكانت بداياته على يد معلمه الشيخ عطية ودرس النحو على يد والده الذي شمله بعناية فائقة ولكن شاعرنا سرعان ما فقد هذا العطف الابوي فقد توفي والده وهو في الثانية عشرة من عمره فشملته امه بحنانها وكانت هذه المرأة الصالحة قد بذلت كل جهدها في سبيل تعليمه واكمال مشواره العلمي رغم ضيق المورد المالي الذي يصل هذه الاسرة من نتاج الارض الزراعية والذي كان شاعرنا يجمعه ويدفعه لوالدته وكان العبء ثقيلا على شاعرنا بعد وفاة عمه فكان يلاقي مشقة كبيرة في اسفاره الى المجر الكبير لجمع نتاج ارضه الموروثة عن ابيه والذي هو كل مورده ومورد افراد اسرته الخمسة. ورغم هذه المعاناة فقد كان متميزا بين اقرانه ففي الخامسة عشرة من عمره تقلّد الزيّ الديني (العمامة) فاصبح اكثر مسؤولية تجاه اسرته ومجتمعه، واخذت دراسته تظهر تقدما ملحوظاً فدرس على يد كبار العلماء في ذلك الوقت، فدرس (كفاية الاصول) للمحقق الخراساني على يد استاذه الشيخ مهدي الظالمي ودرس (الرسائل) و (المكاسب) للشيخ الانصاري على يد استاذه السيد العلامة المحقق باقر الاحسائي كما حضر في عدة بحوث علمية خارجية في الفقه والاصول على يد كبار العلماء والمحققين منهم السيد ابو القاسم الخوئي. ولم تمض فترة حتى اصبح مدرسا يشار اليه بالبنان فأخذ يدرس المنطق وعلم المعاني والبيان ومبادئ علوم الفقه. ومنذ ذلك اليوم بدأت شاعريته بالانتشار فاصبح من كبار شعراء النجف ودخل مضمار التأليف فألف وصنف العديد من الآثار العلمية والادبية منها (رسالة في شرح شواهد الآيات القرآنية) و (رسالة في شواهد الشعر) و (شرح كفاية الاصول) و (شرح لرسائل الشيخ الانصاري) وغيرها فضلاً عن ديوانه المكوّن من جزءين وقد نسقه الشاعر على سبعة ابواب هي:
1- (من وحي العقيدة). وقد اشتمل على مدح و رثاء اهل البيت عليهم السلام.
2- (صور من المجتمع). وضم القصائد الوطنية والسياسية والتي صور فيها الشاعر الحياة الطبقية في المجتمع والتعاليم الاصلاحية معالجة الفساد الاداري.
3- (دروس). وضم من الشعر ما قاله الشاعر في التوجيه والاخلاق والعرفان.
4- (في محراب الطبيعة). وضم صوراً من مناظر الطبيعة وحياة القرية واخلاقها وعاداتها.
5- (طلائع الآمال). وهي قصائد القاها الشاعر في استقبال وفود العلم والادب ورجال الاصلاح الذين زاروا النجف الاشرف.
6- (الحب والجمال) وهو شعر عاطفي وجداني.
7- (دموع وعواطف) وهي قصائد القيت في مآتم رجال العلم والادب وقادة الاصلاح.
لقد طغت مسحة الحزن والالم على شعره جراء النكبات التي تعرض لها شاعرنا في حياته فقد قدّر لشاعرنا ان يشهد موت اخيه الاصغر جبار وابنه علي في حياته مما أثر كثيراً في نفسه كما امتاز شعره بقوة الاسلوب وبديع الصياغة والمعاني الرفيعة يقول في قصيدته (المبعث النبوي):
بعثت والحق من عينيك منبعثٌ
وبين جنبيك نفسٌ في عقيدتها
وبين جنبيك من نور الهدى وضحٌ
ــــــــــ العجز ــــ
نوراً ومن شفتيك الصدق قد لهبا
تجاهد الشرك والتضليل والريبا
دم الجهاد عليه قد جرى ذهبا
ويقول في قصيدة مدح بها امير المؤمنين عليه السلام:
أبا الحقِِ والحقُ يسمو عُلىً
حياتك وهي حياة الفقير
وقوتك قرص الشعير الذي
وكل ادامك بعد المخيض
ومدرعة الصوف وهي النسيج
ومن جنس هذا النتاج الشريف
وهاتيك عقباك وهي الخلود
ـــــ العجز ــــ
اذا كان فيك اسمه يُشفعُ
يحيط بها فقره المدقعُ
تسدُ به الرمقُ الجوّعُ
جريشٌ من الملح لايجرع
وفي كل آونةٍ ترقعُ
إزار الزكية والبرقعُ
وعقبى سواك هي البلقعُ
اما عن (عيد الغدير) فيقول شاعرنا:
الوحي انزله فيها وطاف به
يا ايها المصطفى بلّغ جموعهم
فقام فيهم كما اوحى الإله له
هذا علي امام الحق بينكم
ــــ العجز ـــ
صوت من الحق في اجوائها انطلقا
نصّ الغدير ولا تخشَ الورى فرقا
مبلّغاً خاطباً في نطقه ذلقا
وفي امامته القرآن قد نطقا
ومن قصائه الرائعة ما نشده الشاعر في محافل النجف الاشرف وندوات رابطتها الادبية في مناسبات شتى ومنها ذكر عاشوراء والتي هزت كبار شعراء النجف حينها قصيدته (أبا الشهداء) يقول فيها:
ناجيت ُُ ذكراك حتى عطّرت كلمي
وهزّني لك من ارض الحمى وترٌ
قد أرقص القلب حتى خلته خبباً
فرحت ألثم مثوىً فيه قد عكفت
قبلته بفمي حتى أسلت به
ــــ العجز ــــ
كأن ذكراك قرآن جرى بفمي
جس العواطف في ضرب من النغم
على كؤوس الولا يطفو من الضرم
روح البطولة والاقدام والشمم
قلبي فضّرجته من أدمعي و دمي
ويقول فيها أيضاً:
يا مصرع الشمس حدثنا فانت فمُ
عن نهضة في سبيل العدل عاصفة
وفاتح ملأ الدنيا بنهضته
في كل جيل له جند يصول به
وكل ارض بها فتح نمجده
ــــــ العجز ــــــ
يجيد تجسيد فصل الحزن والالم
طغت على الظلم في سيل من الحمم
وقائعاً من صداها الدهر في صمم
من العقائد أمضى من شبا الخذم
في مهرجان ليوم النصر مبتسم
|
|