التربية الصالحة ضمان الاستقامة
|
*كريم محمد
عندما تتواتر المصائب وتتلاحق المآسي على الأمة، فان جوهرها الحقيقي سيظهر لنفسها وللناس جميعاً. أما الأمة التي تصطدم بواقع الضعف والانكسار.. لايسعها الا استخراج كنوزها الذاتية، واستخلاص قواها المكنونة المتمثلة في الاستقامة.
ولا يخفى؛ ان الاستقامة هي جوهر كل امة، والامة التي لا تتمتع بالاستقامة هي أمة منهزمة في جوهرها وكيانها، عاجزة في قدراتها.. وبناء على ذلك، فان الاستقامة جوهر الأمة، وميزان ثباتها وتحديها.
ولاننا اليوم نعيش تحدياً حضارياً على جبهتين؛ جبهة الخارج، حيث نواجه التحديات الخارجية على صعيد الفكر والثقافة، وجبهة الداخل، حيث نواجه التخلف والانحطاط الى جانب الظلم والاستبداد. إذن، لا مناص لنا من الاستقامة. ولكن ماهو السبيل الذي يجعلنا نحظى بالاستقامة؟
ان الذي يعيننا ويعين ابناء امتنا الاسلامية على الاستقامة، هو ان نتلقّى التربية الاسلامية منذ الطفولة، وفي هذا المجال تلعب المدارس دوراً اساسياً في ترسيخ الاستقامة في نفوس شبابنا .
ومن المعلوم ان الغالبية العظمى من صفات الانسان تبدأ بالظهور في مرحلة الطفولة، ومنذ السنين الأولى من حياته، ونحن عادة ننسى المواقف الجزئية التي اثّرت في حياتنا، وصاغت شخصيتنا وكوّنت افكارنا.. ولكن هذه العوامل ماتزال تعيش معنا متمثّلة في نتائجها.
وعلينا ان لا ننسى في هذا المجال ان نستوحي تعاليمنا وتوجيهاتنا وارشاداتنا التربوية من القرآن الكريم، ولكننا نلاحظ - للاسف الشديد- ان القرآن مهجور في بلداننا الاسلامية، بل ان البعض يدّعون ان القرآن كتاب وانزل قبل ابعة عشر قرناً، وانه موجّه الى اولئك الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر. فنراهم يهجرون القرآن الكريم، ويؤطّرونه - في افضل الاحوال- بأطر تقليدية محدودة ينبغي ان لايخرج منها، كأن يكون عامل للبركة في البيوت أو يقرأ في مجالس الفاتحة طلباً للثواب الى المتوفى.
ان مظاهر الانحراف والبعد عن التعاليم القرآنية قد انتشرت - للاسف الشديد- في جميع ارجاء العالم الاسلامي، وعلى سبيل المثال فاننا نلاحظ ان المصارف والبنوك تتعامل من الصباح الى المساء بالربا، ومظاهر الفساد منتشرة في كل مكان، والسبب في ذلك اننا قد اعتقلنا القرآن - إن صحّ التعبير- وعلينا ان نطلق سراحه لكي يُطلق سراح الأمة وتتمكن بالقرآن الكريم من تفجير طاقاتها وتنطلق نحو البناء والتقدم.
والقرآن يقول بشأن الاستقامة التي سبقت الاشارة اليها، والتي اعتبرناها العامل الرئيس في مقاومة التحديات المضارية: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُواوَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ". ثم يقول بعد ذلك: "وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".
وعلى الآباء والأمهات تقع المسؤولية الكبرى في هذا المجال، وذلك من خلال اتباع الخطوات والاساليب التالية:
1- تربية الأولاد على الحرية التي هي بنت الفطرة والارادة. علماً ان المسؤولية لاتكون إلاّ بعد ان تتحقق للانسان الحرية، والمسؤولية هي اعظم وافضل صفة للانسان، فعلينا ان لا نقهر الطفل منذ نعومة اظفاره وان لانهزم نفسيته. فاذا تسبب الأب في هزيمة نفسيّة الطفل في بيته فانه سيصبح طاغوتاً في حدود هذا البيت، وكذلك الحال بالنسبة الى الأم والطفل والطفلة عندما يشبّان فانهما سيتحولان ايضاً الى طاغوتين ثم تستشري حالة الطغيان في المجتمع كلّه.
وبالاضافة الى ذلك فان الطفل الذي تعوّد على الخضوع والسكوت، واعتاد الكبت والهزيمة النفسية في البيت، فانه سوف لايستطيع غداً ان يتحدى المظاهر الفاسدة في مجتمعه. لنحاول ان نمنح اولادنا الشخصية الرفيعة، ولنزوّدهم بالاعتداد والثقة بالنفس، ولنوحِ لهم بانهم مسؤولون عن تصرفاتهم. فتربية الطفل ليست كتربية الدواجن، علماً ان الله سبحانه وتعالى خلق الطير -مثلاً- بحيث يعيش باستقلالية بعد فترة وجيزة من خروجه من البيضة، ولكنّه خلق الطفل بحيث يحتاج الى أبويه لسنين عديدة، وحكمة ذلك ان الطفل انما يتلقى خلال هذه السنين منظومة متكاملة من الاخلاق والسلوك والعادات والقيم ليكون بها شخصيته، وعلى ضوء ذلك يتمكن من تحمل المسؤولية. وهذا بحاجة الى فترة ليست بالقليلة وعمل دؤوب وحرص وانتباه من الوالدين.
اذن، لنعطِ كرامة لاطفالنا، ولننمّي فيهم روح الاستقامة، ولنعودهم على ان يحيوا حياة الابطال دون ان نفرط في (تدليلهم)، ونبالغ في رعايتهم والعناية بهم الى درجة بحيث نجعلهم مرتبطين بنا، ويفقدون بذلك روح الاستقلالية. وفي هذا المجال يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (شر الآباء من دعاه البرّ الى الافراط).
3- علينا ان نربّي اطفالنا على حب الناس، وان نجعلهم يشعرون بلذّة الاحسان الى الضعفاء والبؤساء، وان نحذر كل الحذر من ان نربّي فيهم روح الانانية والذاتية. فاذا ما قام احد اطفالنا بالاحسان الى صديقه، فعلينا ان لا نؤنّبه، بل علينا ان نمدحه ونثني عليه ونشجّعه على سلوكه هذا مستهدفين بذلك تنمية روح التعاون والايثار في نفسه. وللاسف فانّ هناك ظاهرة مؤسفة منتشرة بين الآباء والأمهات في مجتمعاتنا، وهي انهم يحاولون دائماً - من حيث يشعرون او لايشعرون- الى تنمية روح الانانية والفردية في نفوس اولادهم، وهذه الظاهرة تتجلى في مجال الدراسة اكثر من أي مجال آخر فتراهم يزقّون اولادهم بافكار وتوجيهات لا تؤدّي إلاّ الى تخريج جيل انانيّ، لا يفكّر إلاّ في نفسه ومصالحه. فتراهم يؤكدوا على اولادهم ان يركّزوا اهتمامهم على الدراسة من أجل ان يحصلوا على الشهادات العليا وان يشغلوا المراكز والمناصب الرفيعة.
وبالطبع فاننا لا نقصد ان على الآباء والأمهات ان لا يحثّوا ابناءهم على الجدّية في الدراسة والتفكير في بناء مستقبلهم ولكنّ اسلوبهم في هذا الحثّ والتشجيع يجب أن لا يؤدي الى اشاعة روح الانانية والفردية بين اوساطهم، فعليهم بدلاً من تلك التوجيهات، والايحاءات المغلوطة، ان يشجّعوا ابناءهم على الدراسة ولكن من خلال تلقينهم بأنّهم اذا جدّوا في هذه الدراسة واهتمّوا بها، فانّهم سيصبحون في المستقبل افراداً فاعلين في المجتمع، يقدمون الخدمات الجليّة والانسانية كما بامكانهم ان يستفيدوا لأنفسهم من تلكم القدرات العلمية.
4- وقبل كل هذه الخطوات المتقدمة، لابد ان نغرس في قلوب ابنائنا حب الله جلّ وعلا. وبذلك يمكننا ان نربّي ابناءنا تربية صالحة، عبر التحدّث عن نعم الله عز وجلّ لهم، وعن آياته في الطبيعة، وحرصه على ان تكون عاقبته سعيدة في الدنيا والآخرة.
وهكذا فان التربية الفاضلة هي التي تصنع جيلاً يستطيع ان يتحدّى المشاكل والصعوبات، حتى يبني حضارة مجيدة سامية، ومثل هذه القمة الرفيعة لايستطيع ان يتسنّمها إلاّ الذين ربّوا في انفسهم روح التحدي والصبر والاستقامة، ووطّنوا انفسهم على الصمود ازاء التحدّيات الحضارية.
|
|