الــذين أخجلـــوا حاتمــــاً ...
|
المحامي خالد الشطي (*)
الكريم هو من يعطي إذا سُئل، أما من ابتدأ بالبذل والإعطاء، وبادر بالإفضال قبل الطلب والسؤال، فيكون جواداً... فماذا عسى أن يُسمى ما يفعله أهل العراق في احيائهم للشعائر الحسينية، وما فعلوه خاصة مع زوار سيد الشهداء(ع) في أربعينيته الأخيرة في صفر الماضي؟، وفي كل عام، وماذا يمكن أن يُطلق على الذي يُكره الناس على الأخذ، ويجبرهم على تلقي المنح والضيافة!؟
سمعنا كثيراً عن كثير كرم العرب وجودهم، ورأينا بعضه، ولربما ظهر شخص في حي ومنطقة أو في قبيلة، ذاع صيته واشتهر بالكرم، ولكننا لم نسمع عن قبائل كاملة، ولم نر شعباً تعداده بالملايين ينقلب إلى نماذج تخجل حاتم الطائي وتسقط تفوّقه،وهو مضرب المثل الأول في كرم العرب، والكرم هو أكرومة العرب الأولى، ولعلها الوحيدة.
هناك كرمٌ يرجو الرد والمقابلة بالمثل "أكرمني لأكرمك"، وكرمٌ للصيت والسمعة، وكرمٌ يفرضه الموقع ويلزم صاحبه بممارسته، وكرم جاء من بطر وثراء فاحش، لا يدري صاحبه ما يفعل بأمواله… ولكن تعال إلى كرم لا يريد صوتاً انتخابياً، ولا يرجو شهرة، ولا يطلب مقابلة بالمثل، ويبذل من حر ماله، بل يقدم كلَّ ماله، وهو الفقير المدقع، يوفر من قوت عياله ويقتّر على نفسه في معيشته، حتى إذا جاء الموسم، نصب سرادقاً في طريق زوار الحسين (ع) ليخدمهم ويستضيفهم بما يستطيع. نموذج يستل فكره وهديه من الولاء لمن أنزل الله فيهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا}، فيسعى لأن يحذو حذوهم ويتخلَّق بصفاتهم.
وصور الكرم وأسبابه وطرقه كثيرة، ولكن أن تقطع الطريق، بعوائق من الحجارة الكبيرة تعوق مرور السيارة، فإذا توقفت، ظهر الرجال من بين النخيل ومن وراء المضارب والسرادقات، وأقسموا عليك أن تترجل ليستضيفوك، ثم تتكرر الحالة ويتكرر المشهد آلاف المرات، ليتحول الأمر إلى ظاهرة... فهذا ضرب لم يُعهد في التاريخ!.
أما صنوف الكرم فلا تتوقف عند المأكل والمشرب وتوفير المبيت، بل تتعداه إلى صور غريبة: يجلسونك ويخلعون عنك حذاءك، ويأخذونه إلى التنظيف من الطين والمدر الذي علق به، ويأتونك بطست من الماء الساخن، تستقر فيه قدماك ساعة، ثم يأخذون في الدلك وعمل "مساج" يزيل عنك التعب والرهق، وفي بعض المضايف التي يقوم عليها ميسورون، هناك مقاعد كهربائية وثيرة، تقوم بعمل مساج للجسم كله، وهي أجهزة باهظة الثمن. وقد نقل لي أحد الزوار أنه رأى خيمة نذرها صاحبها لتقديم خدمة شحن بطاريات الهواتف النقالة! فإذا سئل عن ذلك قال: ماذا أصنع، لا أحد يأكل أو يشرب، المضايف سدت علينا أبواب الخدمة، ففكرت في هذا لعلّي أستضيف بعض الزوار! فإذا علموا أنك كويتي أو بحراني أو قطيفي او عماني او لبناني او... أي كنت قادماً من شق بعيد، زاد الكرم وتضاعف الاهتمام، إذ لكل قادم كرامة، والغريب مقدم على أهل البلد! .
من هنا، ينفرز المشهد وتتركَّب الصورة المقابلة، ومن هنا تعرف سبب الحنق والغيظ والحقد، الذي يتفجر عادة عبوات ناسفة تريد ثني الناس عن الزيارة وتقويض هذه الظاهرة والشعائر العظيمة، أو ينحدر مقالات تصب في الهدف نفسه، وتستقي، عن علم أو جهل، من نفس القعر الآسن والوكر الذي تعشعش فيه خفافيش الإرهاب، العملي أو الفكري.
من الطبيعي أن يبغض هؤلاء "الأشحة" هذه الشعائر، لإنهم لا يطيقون الكرم! فالكرم، كما كل فضيلة، منبعه محمد وآل محمد(ص).
إنهم {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، وهم {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ}، تمر الأيام وتكر السنون، ولا يدخل بيت أحدهم ضيف "إلا لمصلحة"، ولا تخرج منه للناس منفعة، وتنقلب الدنيا رأساً على عقب، ولا يتجشم أحدهم عناء بذل "إلا في سبيل الإفساد والإرهاب"، فإذا مارس المؤمنون شعائرهم وظهر الكرم الكامن فيهم من فاضل الطينة التي جاءتهم من أنوار أهل البيت، غضب أولئك وحنقوا.
وبعد، فالشعائر الحسينية، ناهيك بموضوعيتها واستقلاليتها في العنوان المبيح والمحبب بل الواجب أحياناً، تربي المؤمن وتزكيه وتسمو به، تصقل المكارم والمحامد فيه، وتجلي نفسه من الكدورات والشوائب التي علقت من لوث الماديات وأخلاط الحياة الدنيا. شعائر تبدأ من أول محرم لتبلغ ذروتها وقمتها في عاشوراء، ثم تعود لتجدد الحزن في الأربعين، عبر زيارة قلَّ نظيرها في الأجر والثواب، مشاة يقطعون مئات الكيلو مترات سيراً على الأقدام، معرَّضين خلاله - في كل لحظة - للغيلة قتلاً وتفجيراً، فلا يبالون، ومنهم من يرتقب وينتظر التفجير ويتمنى أن يقضي شهيداً في هذا الطريق!
الشعائر الحسينية أيها الحانقون التعساء ليست "سلوكيات صاخبة"، وإن كان ثمة صخب فيها من هول الفاجعة وحرارة العشق والولاء، فهو مطلوب مرغوب.. وليس من شأن الدين أن يبحث عن صور وأشكال تجعل شعائره مستساغة حسب رغبات واهواء بل واحقاد البعض، ومن لا يستسيغها من كدر فساده وانحرافه، ويتناولها بتعالي الفسقة وغطرسة الجبابرة، عليه أن يراجع ذائقته المريضة وذوقه السقيم، ويعرض نفسه على بيت المتنبي الشهير:
وَمَــــن يَــــــكُ ذا فَـــــمٍ مُـــــرٍّ مَـــــريـــضٍ // يَجِـــــــــد مُــــــرّاً بِهِ المــــاءَ الــــزلالا !
(كاتب كويتي)
|
|