الناشئ الصغير.. شاعر المسجد
|
*منذر الخفاجي
كان مجلسه في الكوفة يضم المتكلمين والمحدثين والفقهاء والادباء والشعراء وكلهم يأخذون منه فأذا جاء من يريد المناظرة في علم الكلام كان المتصدي الاول له، فلم تعرف الكوفة في وقته من هو أبرع منه في هذا العلم وشهد له مسجدها مناظراته مع الاشاعرة والمجبرة وغيرهما من الفرق، فلا يرجعون إلا وقد نالهم العجز عن مجاراته وكان يُملي شعره في مدح أهل البيت عليهم السلام ورثائهم والدفاع عن حقوقهم المغصوبة في مسجد الكوفة، والناس يكتبون عنه، وكان يدأب على حضور مجلسه صبي وهو يكتب بحرص وانتباه شديدين ما يُملى عليه خوفاً من ان يفوته شيء فساعدت هذه الاشعار التي كان يكتبها على تكوين شاعريته حيث كان يتلقف معانيها وصورها فلا تزال محفورة في ذهنه حتى يظهر تأثيرها على شعره وقد هزه هذان البيتان:
كأن سنانَ ذابلهِ ضميرٌ
فليس عن القلوب له ذهابُ
وصارمه كبيعته بخمٍّ
مقاصدها من الخلْقِ الرقابُ
فلا يزالان يتملكانه حتى أفصح معناهما بقوله:
كأن الهام في الهيجا عيونٌ
وقد طبعت سيوفك في رقادِ
وقد صغت الاسنةُ من همومٍ
فما يخطرن إلاّ في فؤادِ
وهذا الصبي هو المتنبي أما شيخه الذي كان يُملي عليه فهو شاعرنا الناشئ الصغير.
يد السياسة مرة أخرى
وقد تجابهنا حالة تسترعي الانتباه كثيرا طالما تكررت عند الكثير من امثال شاعرنا، وهو من شعراء اهل البيت عليهم السلام، وهي الفارق الكبير بين ما قاله الشاعر وبين ما هو موجود. فهذا الشاعر الذي كانت (مدائحه في أهل البيت عليهم السلام لاتحصى كثرة) و (له اشعار كثيرة في أهل البيت عليهم السلام لا تحصى حتى عُرف بهم، ولقب بشاعر أهل البيت)، و( واستنفذ عمره في مديح أهل البيت عليهم السلام حتى عرف بهم واشعاره فيهم لا تحصى كثرة)، الى غيرها من الجمل المشابهة وهو مع ذلك يطالعك المؤرخون بعد هذه الجمل بعبارات: (واغلب هذه المدائح لم يصلنا وضاع فيما ضاع من شعره) و (ان له ديوان شعر ولكن هذا الديوان مفقود).
في كل حال لا نريد الخوض في هذا الموضوع الذي بلاشك سيعرف تفاصيله القارئ وكيف لعبت يد السياسة والعصبية والمذهبية دورها في اخفاء تراثنا؟ لكن قيّض الله لشعر الناشئ المتبقي والمتناثر في خلايا الكتب من يجمعه، فقام الباحث الكبير الشيخ محمد السماوي بجمع هذه الاشعار من المصادر المعتمدة والمخطوطات النادرة فكوّن له ديوانا في ست عشرة صفحة ضمت (349) بيتا كلها مما قيل في مديح أهل البيت عليهم السلام و رثائهم ومناقبهم وكتبها الشيخ السماوي بخطه و أوقفها على مكتبة الحكيم العامة في النجف الاشرف لكن لم يشر الى المصادر التي جمع منها هذا الديوان فقام الاستاذ هلال ناجي عضو مجمع اللغة العربية بدمشق بتحقيق الديوان وتقديمه والبحث عن مصادره المتناثرة وتوثيقها في الديوان.
(مدائحه لا تحصى كثيرة)
ولنرجع الى شاعرنا وتسليط الضوء على تراجمه الكثيرة واستخلاص أهمها بعيدا عن التكرار واختزال الاختلاف بين المؤرخين فيما يخص ترجمته باعتماد اشهر الاقوال واوثقها.
انه ابو الحسن علي بن عبد الله بن وصيف المعروف بالناشئ الصغير الحلّاء البغدادي. ولد في بغداد (باب الطاق) سنة (271) هـ كان جده وصيف، مملوكاً، أما لقبه الحلاء فقيل ان اباه كان يعمل حُلية السيوف وكان هو يجلس في دكان ابيه فسمي حلاءً وقيل ان الناشئ نفسه كان يصنع حُلي النحاس ويعمل الصفر ويخرمه وله فيه صنعة بديعة، ومن عمله قنديل بالمشهد الكاظمي المقدس. اما لقبه الناشئ الصغير فقد لقب به في مقابلة الناشئ الكبير الشاعر المعتزلي ابو العباس عبد الله بن محمد الانباري المتكلم المعروف بـ (شر شير الكبير) المتوفى بمصر سنة (293)هـ.
ترجم لشاعرنا الناشئ الصغير كل من : الذهبي في (سير اعلام النبلاء)، والسمعاني في (الانساب) والحموي في (معجم الادباء) وابن خلكان في (وفيات الاعيان) والنجاشي في (الرجال) والطوسي وابن النديم في (فهرسيهما) وابن حجر في (لسان الميزان) والسماوي في (الطليعة من شعراء الشيعة) والشيخ عباس القمي في (الكنى والالقاب) وابن شهر آشوب في (المناقب) وغيرهم من المؤرخين والمؤلفين وجملة ترجمته غير المكررة انه كان : (من علماء الشيعة ومتكلميها ومحدثيها وفقهائها وشعرائها له كتب في الامامة ومدائحه في أهل البيت عليهم السلام لا تحصى كثرة وكان متكلما بارعا يعتقد بالامامة ويناظر عليها بأجود عبارة أخذ علم الكلام عن ابي سهل اسماعيل بن علي النوبختي الذي كان من علماء الشيعة الكبار وكان الناشئ ينشد شعره في مسجد الكوفة وله تصانيف كثرة).
رقيق الشعر
هذا موجز ترجمته في المصادر، اضافة الى حوداث صغيرة عن حياته الاجتماعية استدل بها المؤرخون على ذكائه وفطنته ونبذ من مناظراته مع اصحاب المذاهب الاخرى. وقد ذكر الطوسي وغيره ان له كتبا وتصانيف في الامامة ولكن لا يوجد شيء منها الآن. وقد روى الناشئ عن النوبختي والمبرد وروى عنه احمد بن فارس وعبد الله بن روزبه الهمداني والخالع وابن زرعة الهمداني وعبد الواحد العكبري وعبد السلام البصري وغيرهم. اما شعره فقد وصفه السماوي (كان رقيق الشعر منسجما جزل المعنى، قوي الاسر، فتراه على قوته يكاد أن يذوب) وابرز شعره قصيدته البائية المشهورة في مدح أهل البيت عليهم السلام:
بآل محمدٍ عُرف الصوابُ
وفي ابياتهم نزل الكتابُ
هم الكلمات والاسماء لاحت
لآدم حين عزّ له المتابُ
وهم حجج الإله على البرايا
بهم وبحكمهم لايسترابُ
وله قصيدة ضمّن فيها السورة التي نزلت بحق اهل البيت عليهم السلام:
استمع ما أتى به جبريلُ
احمد المصطفى البشير النذيرا
يوم صام الوصيُّ والاهل لله تعالى يوفون منهمُ نذورا
وحبوا في طعامهم ذلك اليوم يتيما ومؤسراً وفقيرا
فتلا هل أتى على الانسان حينٌ من الدهر لم يكن مذكورا
وقال في مدح الامامين الكاظمين عليهما السلام:
ببغداد وان مُلئت قصورا
قبورٌ غشت الآفاق نورا
ضريح السابع المعصوم موسى الامام المحتوى مجداً وخيرا
وقبر محمد في ظهر موسى
يغشي نور مهجته الحضورا
هما بحران من علم و جودٍ
تجاوز في نفاستها البحورا
توفى شاعرنا يوم الاثنين 5 صفر سنة (356) عن (94) عاما ودفن في مقابر قريش قرب مرقد الامامين الكاظمين عليهما السلام ونبش قبره في حوادث سنة (443) وأُحرق.
|
|