قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

العقل.. مشروع معرفي عظيم يقدمه الاسلام
*علي جواد
منذ فترة ليست بالقصيرة والبعض يتصور ان (العلم) هو المحرك الاساس في مسيرة تقدم الانسان وتطوره في الحياة، ويستدلون بذلك بالتجربة والتحليل والاستنتاج وغيرها من الوسائل التي تدعم الرؤية المادية للحياة، ولذا نجد ان المفكرين والعلماء في الغرب و طوال القرنين الماضيين يحرصون على فصل الجانب المادي للعلم ومكتشفاته وحقائقه، عن الجانب المعنوي له وما ينطوي عليه من حقائق واسعة وكبيرة عن الوجود والكون والخلق وغيرها. والاسلام من خلال (الكتاب) وهو القرآن الكريم و (العترة) وهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقدم مشروعاً معرفياً عظيماً للبشرية يوازن بين الجانب المادي والجانب المعنوي للعلم، وتكون بيضة القبان (العقل)، وبذلك يحقق أفضل النتائج في تحقيق السعادة الحقيقية في الحياة. لكن كيف يكون ذلك...؟
العقل و نور العلم
عندما يُحكِّم الانسان نور العقل في تصرفاته يجد نفسه -شاء أم أبى- مهتدياً سبيل الحق، مبتعدا عن الباطل، فهو حين يستمع لدعوىً مّا، فإما أن يؤمن بها إن وجدها موافقة لعقله الذي وهبه الله تعالى إياه، وإما ان يرفضها ويجانبها إن وجدها تخالف عقله. إذاً فالعقل يوجب على الانسان ان يستمع الى كل داع يدعو الى الله لأنه حجة الانسان الواقعية، ونحن حينما نرجع الى كلمات الأئمة وأقوالهم وخطبهم وأحاديثهم، تتنور قلوبنا وتتفتح. فهذا نهج البلاغة يضم بين حناياه آفاق المعرفة بالله سبحانه وتعالى. يقول الامام علي في أول خطبة مما اختاره الشريف الرضي، بعد أن يحمد الله: (... الذي ليس لصفته حدٌ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود ولا أجل ممدود. فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتَّد بالصخور مَيَدان أرضه ...)، ونقرأ أيضاً: (لم يُولد سبحانه فيكون في العز مشارَكاً، ولم يَلِد فيكون موروثاً هالكاً. ولم يتقدّمه وقت ولا زمان، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن، والقضاء المبرم). (نهج البلاغة / الخطبة رقم182).
إن كلمات امام المتقين، تكاد ترينا الله ببصيرة الايمان وتفتح لنا آفاق المعرفة وتوضح السبيل الى الايمان بالله سبحانه وتعالى، ونحن حينما يحدثنا التأريخ عن (همّام) وهو يستمع الى إمام المتقين يحدثه عن صفات المتقين، فيصيح صيحة تكون نفسه فيها ويقع ميتا؛ نعلم كيف يتجلى الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن من خلال كلمات الامام علي عليه السلام.
وهذا السفر العظيم في العرفان الموسوم بـ(عيون أخبار الرضا) يوضح كثيراً من الحقائق وبعبارات بسيطة في أسلوبها تكاد تكون في متناول كل المستويات، عميقة في مفاهيمها ومحتواها، فيقف أمامها المتفكرون عاجزون عن ردها او التشكيك بها.
ومما لايخلو عن الفائدة فيما نحن فيه ان نذكِّر بما سبقت الاشارة إليه من أن الفلسفة الاغريقية كانت منتشرة في البلاد الاسلامية إبان عصر الامام الرضا عليه السلام، وانه كانت تجتمع لديه الفلاسفة يباحثونه ويحاورونه، ومنهم الصابئي والديصاني اليهودي ويحضر لديه الحبر والمتزندق، وكان ابن السكيت النحوي المعروف أحد أولئك الفلاسفة الذين حاوروا الامام عليه السلام فيقول كما جاء في رواية: وإن الله تبارك وتعالى بعث محمداً في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنه قال : والشعر - فأتاهم من كتاب الله عز وجل ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت الحجة عليهم، فقال ابن السكّيت: تالله ما رأيت مثل اليوم قط، فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال عليه السلام: العقل؛ تعرف به الصادق على الله فتصدّقه، والكاذب على الله فتكذبه، فقال ابن السكّيت: هذا والله الجواب. (بحار الأنوار - ج 11 - ص 71).
فالانسان إذا توجه الى عقله سيأمره بالخير وينهاه عن الشر؛ يُحلُّ له الطيبات ويحرم عليه الخبائث. هنا يجد العقل ان نور القرآن يبلور النور الموجود عنده، فيذعن الانسان حينئذ ان هذا العقل هو من الله سبحانه وان هذا القرآن ايضا منه جل وعلا. أما ان يفقد الانسان نور العقل وينجرّ وراء الأوهام والعنت والغرور، فانه لن يملك الحجة، وعندها يقف ساكتا صامتا لا يعي من أمره شيئا. فهذا ابن أبي العوجاء - لعنه الله - عاش زنديقا ومات زنديقا بين الناس؛ رجل طبع على قلبه، يأتي فيحاور الامام الصادق عليه السلام، ثم يعجز عن الكلام فيسكت ويسخر منه أصحابه متهكمين بأنه الذي لم يسكته أحد فكيف به الآن امام حجة عظيمة؟! فيقول لأصحابه: ويحكم كدت ان ارى الله بيني وبينه! كما جاء ذلك في نص الرواية في موسوعة بحار الانوار (ج3 - ص43 - رواية 18).
من يضمن سلامة العلم؟
لعل هناك من يتساءل عن نسبة العلم الى العقل، وما هو العقل وما هو العلم ؟
ان العقل هو النور الذي أعطاه الله تعالى للانسان، وليس العلم إلا شعاع من أشعة ذلك النور؛ كما أن الايمان شعاع منه، وكذا الارادة والقدرة. وعليه فليس العلم بعيداً عن العقل، إذ هما شيء واحد. فالنور الذي يقول للانسان ان الظلم قبيح هو العقل، بل ويمكن ان يقال هو العلم بقبح الظلم. كما ان الذي يقول للانسان بأن اجتماع النقيضين محال هو العقل، فالتعبير هنا وان اختلف لكن القصد واحد والفكرة واحدة والنور واحد، ان النور الذي يجنب الانسان الاخطار هو العقل، قال الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله : (إن العقل عقال من الجهل).
اما كيف يعلم العقل ؟ او بتعبير آخر كيف يعرف شخص ما بأنه عاقل ام لا ؟! وهل يتم ذلك بإستخدام أشعة ليزر؟! - مثلاً- أم باستخدام الوسائل المختبرية من تحليل لدمه وتجزئته وما الى ذلك من العلوم الحديثة؟
ان للعقل إمارات في التصرف والسلوك الاجتماعي، فحين يكون الانسان صادقا، يفي بوعوده، يعمل الحسنات ويترك السيئات، وغيرها من القيم الاخلاقية والانسانية فهو عاقل، وإلا فهو غير عاقل. إذن فآيات العقل كاشفة عن العقل كما ان آيات العلم هي الدليل إليه ولا دليل آخر غيرها، حيث لا يمكننا وصف العلم مجرداً عن آياته، كذلك الامر بالنسبة الى العقل. والنبي الاكرم صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ذكرونا بالعقل عبر آياته وعبر دلائله وإماراته و علاماته.
شرف العقل
يتّضح لنا مما سبق ان الانسان لابد له ان يعود الى نفسه ليعرفها وليميّز الصحيح من الخطأ وان لا يتوقع ذلك من الآخرين، حينها سيجد انه حصل على الجوهر وعلى الحقيقة، إذ على من يطلب المزيد من الاستضاءة لابدّ له ان يزيد في زيت المصباح ليشع نوره ويعم أرجاء الغرفة بدلا من اللجوء الى تغيير زاوية الضوء او لون جدرانها، بل لابدّ له من ان يزيد نور عقله إذ ما من شيء اكتمل عند الانسان أشرف من العقل. وربما تكون قصة آدم على نبينا وعليه السلام دليلاً على شرف العقل، (إذ هبط عليه جبرئيل فقال : يآدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث، فأختر واحدة ودع إثنين، فقال له آدم : وما الثلاث يا جبرئيل ؟ فقال : العقل والحياء والدين، قال آدم : فأني قد إخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين إنصرفا، فدعاه و قالا له: يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيثما كان، قال : فشأنكما، وعرج). (بحار الأنوار / ج 1 - ص 86 - رواية 8) من هنا نعرف ان الايمان مع العقل، والعلم مع العقل، والتقوى مع العقل، وكل صفات الخير مع العقل.
و روي عن موسى بن جعفر عن ابيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن ابيه الحسين بن علي عن أبيه أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهم السلام قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الله خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطّلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينيه، والحكمة لسانه، والرأفة فمه، والرحمة قلبه، ثم حشاه وقوّاه بعشرة أشياء : باليقين والايمان والصدق والسكينة والاخلاص والرفق والعطية والقنوع والتسليم والشكر؛ ثم قال عز وجل للعقل : أدبر، فأدبر، ثم قال له : أقبل، فاقبل. ثم قال له : تكلم، فقال: الحمدلله الذي ليس له ضدّ ولا ندّ ولا شبيه ولاكفؤ ولا عديل ولا مثل، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا احسن لي منك ولا أطوع منك ولا أرفع منك ولا أشرف منك ولا أعز منك، بك اُوَحَّد وبك اُعبَد وبك اُدعى وبك اُرتجى وبك اُبتغى وبك أخاف وبك أُحذر، وبك الثواب وبك العقاب. فخرّ العقل عند ذلك ساجدا، فكان في سجوده ألف عام، فقال الرب تبارك وتعالى: ارفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع. فرفع العقل رأسه فقال: إلهي اسألك أن تشفعني فيمن خلقتني فيه، فقال الله جل جلاله لملائكته: أشهدكم اني قد شفعته فيمن خلقته فيه). (بحار الأنوار / ج 1 / ص 107 / رواية 3).
هذا هو العقل وهذا هو شرفه ومكانته وهذه هي آياته، وحيث توافرت هذه الصفات لدى الانسان كان عاقلا، إذ ليس العقل إلا جوهر فوق كل الجواهر.