قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

بين مشروع الدولة و السلطة
محمد علي
لا شك أن المجتمع البشري تطور كثيراً فيما يرتبط بتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسة والاقتصادية، وذلك من خلال التأسيس لنظام الدولة التي تقوم بتنظيم شئون الناس والعمل على سد احتياجاتهم وتحقيق تطلعاتهم ومع أن الكثير من الأفكار والتصورات والتنظيرات قيل فيما يرتبط بشأن الدولة وماهيتها ومشروعيتها وحدود سلطتها، إلا أن الجدل والبحث لا يزال مفتوحاً سواء بالنسبة للأفكار المطروحة أو الآليات والتطبيقات والممارسات الإدارية والسياسية، وهو أمر طبيعي إذا ما ربطناه بضرورة البحث المستمر عن الحالة الأفضل والأمثل خاصة مع التفاوت الكبير بين مجتمعات استطاعت أن تقطع شوطاً كبيراً في الطريق لبناء دولة القانون والمؤسسات، فأوجدت لنفسها مكانة متميزة في عالم اليوم على الصعيد السياسي والعلمي والاقتصادي، وبين مجتمعات لا تزال غارقة في البحث لنفسها عن واقع ينتشلها من الجمود والتخلف.وقد يكون من الظلم أن يتم إطلاق اسم الدولة عليها إذا ما أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم الدولة بما هو مطروح من مفاهيم وتصورات قيلت في هذا المجال من قبل البعض من علماء والنفس والفلسفة والاجتماع والقانون. فمثلاً يرى ماكس فيير أن السياسة هي تدبير الشأن العام وتسييره وما الدولة إلا تعبيرا عن علاقات الهيمنة القائمة في المجتمع، بينما يرى هوبز أن الدولة تنشأ ضمن تعاقد إرادي وميثاق حر بين سائر البشر حتى ينتقلوا من حالة الطبيعة – حرب الكل ضد الكل ــ إلى حالة المدنية، وبذلك ستكون غاية الدولة هي تحقيق الأمن والسلم في المجتمع. أما سبينوزا فيرى أن الغاية من تأسيس الدولة هي تحقيق الحرية للأفراد والاعتراف بهم كذوات مسؤولة وعاقلة وقادرة على التفكير وبالتالي تمكين كل مواطن من الحفاظ على حقه الطبيعي في الوجود باعتباره وجودا حرا، لكن هيجل يرى أن مهمة الدولة هي أبعد من ذلك وأعمق وأسمى فالفرد في رأيه يخضع للدولة وينصاع لقوانينها لأنها تجسد فعليا الإرادة العقلانية العامة، والوعي الجماعي القائم على الأخلاق الكونية، لأنها تدفع بالمرء للتخلص من أنانيته بحيث ينخرط ضمن الحياة الأخلاقية ،فالدولة في نظره هي أصدق تعبير عن سمو الفرد ورقيه إلى الكونية فهي بذلك تشكل روح العالم.
وتبّنى الإسلام رؤية متقدمة في بناء المجتمعات والتأسيس لأعراف اجتماعية وأخلاقية وصياغة نظم سياسية قائمة على التكافؤ والعدالة والمساواة والعلاقات الإيجابية بين الناس، فمن حيث التكافؤ وضعت قيمة التقوى والسعي حيث يقول ربنا عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) . ويقول ربنا عز وجل (َوأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) . ويقول الرسول الأكرم (ص) في تعبير رائع عن المساواة (الناس سواسية كأسنان المشط) وفيما يرتبط بالتوزيع العادل للثروة يقول الرسول الأكرم "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار).
إن بناء الدولة بحاجة إلى رؤية أولاً، وهذه الرؤية ينبغي أن تتحول إلى ثقافة لا ترتبط بالتنظير أو الشعارات فقط، بقدر ما ترتبط بالسلوك والممارسة والقدرة على ضبط النوازع النفسية والذاتية من الاندفاع وراء الاستئثار والهيمنة والغلبة من جانب، او من جانب آخر التفكير والعمل لدى البعض بعقلية عهد البعث الصدامي ، والحلم بإعادة عقارب الساعة الى الوراء (وهو ما لايمكن تحقيقه ابدا بأي حال من الاحوال)، وإلاّ تحول مشروع الدولة الى حالة من التسلط والاستفراد بالحياة السياسية وإقصاء الناس عن القيام بدورهم في المشاركة في القرار واستثنائهم من المفاصل الأساسية، وبالتالي سوف ينسحب ذلك على تدني الوعي السياسي والقدرة على الفاعلية الحقيقية للناس في ساحة الواقع السياسي، وقد يتحول الناس إلى أشبه بمجاميع بشرية تابعة وخاضعة وفاقدة للإرادة وهو ما يحول دون تحقيق الإبداع وتحقيق التطلعات. وبكل تأكيد فأن بناء الدولة الجديدة على انقاض عهود مريرة من الدكتاتورية البعثية ، يتطلب من الجميع التطلع الى المستقبل بأفق ونفسية معتدلة تتقبل مايسميه الساسة بلعبة الديمقراطية، وليس بروحية تحمل الحقد على العهد والمشهد الجديد بكل يحمله من استحقاقات كانت مغيبة ومصادرة، والحنين لدى البعض الى ماضٍ مليىء بالقهر والدماء والعنجهية ، او التفكير بنفسية لاتزال تحمل الكثير من مخلفات ذلك العهد وثقافته وادواته، بما لايمكن للشعب ابدا أن يقبله تحت أي ذريعة.
إن الطريق لبناء الدولة القادرة والحاضنة لكل الشرائح الاجتماعية واستيعاب العقول من خلال تفعيل دور الشراكة القائمة على التعاون لا التنابز والتدابر، والكفاءة لا المحسوبية، والصدق والاخلاص وبناء الثقة وليس سوء الظن والشك و الكيدية السياسية، لأن "أعقل الناس من جمع عقول الناس" وتقاسم مساحات النفوذ والتوزيع العادل للثروة والمحافظة على مساحات الحريات المسؤولة والكرامة التي يتنفس من خلالها الناس، هو أمر في غاية الصعوبة وهو يمثل تحديا كبيرا أمام مشروع الدولة، ومن السهل جدا أن تتحول دولة إلى سلطة إذا ما افتقدت القدرة على إدارة التوازن بين هذه المفردات وهو ما يؤدي الى وجود انتكاسات كبيرة في بناء مجتمع قادر على التميز والعطاء .
إننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتقييم أمورنا بموضوعية بعيدا عن الانفعالات وعن التشنجات وحالة المزاجيات الحاكمة على البعض وبعيدا عن حالات التملق والتزلف عند البعض من أصحاب النفوس الضعيفة، كما إننا بحاجة أيضا إلى التحكم في انفعالاتنا وتأثير حالات اليأس والإحباط التي تتحكم في البعض، فبين هذه التباينات تكمن الكثير من نقاط الضعف والجمود التي تحيط بواقعنا اليومي الذي مهما حاول البعض تلميعه وإضفاء كلمات الإطراء والمدح عليه فإنه يبقى عاجزا ليس عن مواكبة ركب المتغيرات العالمية وحسب، وإنما حتى على مستوى واقعنا المحلي المحدود. والله من وراء القصد.