هدية لحجاج بيت الله الحرام هذا العام...
(الحج .. هوية الفرد وصياغة الأمة)
|
*إعداد / تحسين عبد الرضا
بالرغم من أن رحلة الحج فيها مشقة وتحتاج إلى جهد ومال وراحلة وكل ما يمكّن الإنسان من شد الرحال إلى الديار المقدّسة حيث البيت الحرام وسائر المناسك، فإن توجيهات الشرع المقدّس من خلال النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، تحثّ على ارتياد الحج ليس لمرة واحدة في العمر، والتي تسقط الوجوب الشرعي على المسلم، بل لمرات عديدة ليصل الإنسان إلى حد (الإدمان) كما في تعبير الروايات الشريفة، حيث جاء عن الإمام جعفر الصادق عليهم السلام: (عليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم وأهوال يوم القيامة).
إن التزود من الحج عبر طريقين: الأول: من خلال أصل المناسك العبادية وامتثالها بنحو يحقق الصحة الشرعية في الأداء، ثم الدخول إلى عمق المناسك من خلال معرفة حكمتها وآدابها، والتبصر بما تضيفه من سلوك أو مفاهيم. الثاني: من خلال واقع الحج الذي تشكّل من وفود الحجاج، الذين لبّوا نداء الحج من كل بقعة من بقاع الأرض المختلفة من الشعوب المتنوعة، فتتبادل المعارف وتتداول الأفكار، وعلى الأخص اللقاء مع العلماء الربانيين ليقتبس الحجاج منهم البصائر النافعة لحياتهم وواقعهم. وتحقيقاً لهذين الجانبين معاً، بادرت ممثلية سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) في البحرين إلى جمع وتحرير بعض المحاضرات التي ألقاها سماحته في مقر بعثته خلال السنوات الماضية، حيث أن سماحته يدأب في كل عام على الحضور في موسم الحج لتعزيز قيم الدين في ثقافة الفرد، وعلى توجيه الأمة لما يرقى بها إلى مدارج التقدّم، ويحذرها من عوامل السقوط والتخلف. وكانت الحصيلة كتيب من (102) صفحة حمل عنوان: (الحج .. هوية الفرد وصياغة الأمة).
اختار المشرفون على هذا المشروع المبارك سبعة عناوين حرصوا أن تشمل معظم العناوين التربوية والثقافية على صعيد الفرد والمجتمع، فجاء العناوين: الحج .. محطة الاستغفار – المرأة .. المسؤولية الكبرى في الزمن الصعب – ركائز الوحدة والتوحيد – الحج وفهم طبيعة الاختلاف – رسالة الحج في الامة.. الوحدة والوسطية والشهادة – الحج وصياغة مجتمع المؤسسات – وصايا لكي نجني ثمار الحج.
العنوان الأول مما ينبي عنه معناه الواضح، يدعو فيه سماحة المرجع المدرسي حجاج بيت الله الحرام الى اجراء عملية مراجعة شاملة للعلاقة بين الانسان و ربه من جهة، وبينه وبين الناس من جهة اخرى، لذا فانه يجيب على من يتسائل عن كيفية الاستغفار وماهي الذنوب التي يجب ان نستغفر منها ربنا قبل غيرها، وما هي درجات المستغفرين، ويقول: كما للذنوب أنماط واشكال، فان للاستغفار أنماطا ايضاً: وهي الاستغفار من آثار الذنوب وعاهات النفس، والاستغفار من التقصير في حقوق الآخرين والاستغفار من النقص، وهذا النوع من الاستغفار خاص بذوي الدرجات العليا من الكرامة والجاه عند الله الذين يحاولون جهد إمكانهم ان يكونوا من المخلَصين والمصطفين من قبل خالقهم تعالى.
وبما ان لسماحة المرجع المدرسي رؤية متكاملة للمجتمع، فانه يعطي المرأة مكانة خاصة في محاضراته خلال استقباله الاخوات الحاجات من مختلف البلاد الاسلامية، وطالما يؤكد على محورية المرأة في بناء المجتمع والانسان، يقول سماحته: ان أول ما ذكر اسم الحج في القرآن في مرحلته الجديدة اقترن هذا الاسم بامرأة، حينما قال إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ربه: "رَّبَّنَا إ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتيِ بوَِادٍ غَ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتكَِ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ"، هذه الذرية كانت عبارة عن امرأة مجاهدة مهاجرة اسمها هاجر، واسمها يدل على فعلها، تخلّت عن أرضها وعن علاقاتها الاجتماعية وهاجرت مع ابراهيم إلى ربها، وقبلت بكل سكينة ورضا واطمئنان بأن تكون اللّبنة الأولى في بناء هذا الصرح التوحيدي العظيم، وهو بيت الله الحرام. ويضيف سماحته بان الحاج عندما يأتي ليؤدي مناسك الحج يذكر هذه السيدة العظيمة في الصفا والمروة حيث جرت في تلك القصة المعروفة. ثم اشار سماحته: الى أن المرأة كانت عبر التاريخ، جنباً إلى جنب الرجل في حمل رسالات الله. مع آدم صفوة الله كانت حواء الصفية، ومع نوح كانت أمه التي ربته عن يتم، ومع إبراهيم كانت هاجر، ومع موسى كانت أمه التي تلقّت الوحي ووضعته في تابوت، ودفعت بالتابوت في عرض البحر، وأما النبي العظيم عيسى بن مريم فدور أمه الصديقة مريم كان واضحاً، ومع نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله، كانت خديجة، ومع علي عليه السلام كانت فاطمة سلام الله عليها، ومع الحسين كانت زينب سلام الله عليها، وهكذا المسيرة مستمرة.
وفي اطار حديثه عن المرأة ربط سماحته بين الوضع المأساوي والمزري الذي تعيشه المرأة، وبين تخلف الامة، يقول سماحة المرجع المدرسي: هناك نسبة كبيرة من مشاكل أمتنا تختص بمشاكل المرأة، فالمرأة ظلمت وأهينت وأبعدت عن الحياة، واستُخدمت معها أقسى ألوان الإهانة بسبب التقاليد الجاهلية، كما هو الحال في بعض المناطق في العراق وإيران وأفغانستان وفي باكستان، إذ تقتل بمجرد التهمة من قبل عائلتها، وتدفن أو يُرمى بجسدها في العراء، هذه العادات السيئة التي كانت في الجاهلية لا تزال وللأسف مستمرة إلى هذا اليوم، ويضيف سماحته: إن المرأة أصبحت أُمّاً لمجتمع مهان وذليل لا يعرف كيف يدافع عن حقه، يخضع لكل طاغوت وجبّار، فالمشكلة في المرأة والمشكلة في المجتمع الذي أهان المرأة، ولو أردنا أن نعيد الأمور إلى نصابها؛ فعلينا أن نبدأ من حيث بدأ الله تعالى، فحينما أراد الله أن ينقذ بني اسرائيل، أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه، فكانت المرأة بداية موسى، وحينما أراد الله أن ينقذ
مرة أخرى بني اسرائيل من الانحرافات خلق مريم، وأم مريم - زوجة عمران- التي نذرت ما في بطنها محرراً لله سبحانه وتعالى، وكيف كرّم الله مريم بأن ينزل عليها ربنا رزقها وهي في المحراب، وحينما أراد أن تنقذ هذه الأمة خلق فاطمة الزهراء سلام الله عليها، فاطمة وما أدراك ما فاطمة! أولسنا نقرأ في حديث الكساء قول الرب عز وجل حينما سأله جبرئيل: ربنا ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها. ومن الأذكار الجيدة جداً والنافعة هذا الذكر: (اللهم صل على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد ما في علمك)، لماذا كل هذا؟ لأن هذه فاطمة محور، وهذه المحورية مهمة جداً، وكذلك سيدتنا زينب سلام الله عليها كانت مع الحسين عليه السلام، ولولا زينب لطمست معالم كربلاء وملحمة عاشوراء، ولما كانت لدينا هذه المجالس وهذه الشعائر وهذا المد الإلهي في الأرض، لأن زينب هي التي حملت الراية. وأنتم تسمعون عن أم البنين، فلولا هذه المرأة العظيمة لما كان العباس عليه السلام ، ولولا العباس من كان سيحمل راية الحسين عليه السلام في كربلاء؟ إذن؛ أم البنين هي التي ربّت أولادها الأربعة على أن يكونوا فدائيين لابن فاطمة منذ الطفولة، ولذلك نالت هذا المقام العظيم، فأصبحت بابا للحوائج، ومع أنها ليست من الأسرة الهاشيمة، إلا أن فعلها، وعملها وعطاءها، جعلها تنال كل هذا المجد والمقام.
أما المحور الآخر الذي سلّط سماحة المرجع المدرسي الضوء عليه، فهو مسألة التنظيم والتأسيس كخطوة للتخلص من حالة التراجع والتخلف التي تعيشها الامة، لذا يتسائل المرجع المدرسي (حفظه الله) في محاضرته: لماذا نحن المسلمين في حالة تشتت؟ والآخرون يعيشون في عالم يزخر بالمؤسسات على مختلف المستويات، مؤسسات اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية، مؤسسات تعيشها الحالة الجديدة في العالم، بينما المسلمون يتشتتون ويتمزقون ويعادي بعضهم بعضا، وتنتشر فيهم حالات الفراق والطلاق والإختلاف والتنازع؟ فهل هناك أمل في عودة اللحمة إلى الحالة الإسلامية؛ لينهضوا بواقعهم المتردي؟ ومن أين نبدأ؟
يجيب سماحته مستطرداً في الحديث: ان البداية من الحج، فالحج صياغة جديدة للعالم كله وللعالم الإسلامي بالذات، ونفحة ربانية توحيدية يتعرض لها العالم، وهذه رسالة من الحج إلى الآفاق ومن الحجاج المسلمين في كل مكان، ولكن الرسالة في الحقيقة تخصهم دون غيرهم. إن الحجاج أنموذج لذلك المجتمع الإسلامي المفترض ان يكون (مجتمع المؤسسات). وهذا لن يتم إلا بمحورية الكعبة المشرفة، لان كل شي بحاجة إلى محور، فالوحدة بحاجة إلى محور، ومحور الوحدة الكعبة المشرفة، والدليل على ذلك؛ الطواف والصلاة صوبها.
يقول سماحة المرجع المدرسي: أحصيت في القرآن الكريم كلمة (القيام) والتي تدل على النظام وعلى القيمومة والتجمع، فجاءت في أكثر من مناسبة، كما المال قيام للناس، والإمام قيام للناس، كذلك الكعبة قيام للناس، ففي الحديث الشريف: (الكعبة آمان الله لأهل الأرض، لو هدمت لم تناظروا)؛ أي لوهدمت فأن أهل الأرض لا يُمهلون حين ارتكابهم الذنب، فيؤخذون بذنوبهم سريعاً؛ لأن الكعبة هي مركزالتوبة والرحمة. ويدعو سماحته الى تأسيس حياة الامة على أساس الكعبة، لأن الكعبة تؤسس الوحدة، وإذا التزمنا بهذا المحور الأساس أكثر فأكثر فإننا سنجد الوحدة ستتحقق.
ويعد سماحة المرجع المدرسي الاهتمام اكثر فاكثر بالقرآن الكريم خطوة أساس على طريق التنظيم والتأسيس، لذا يدعو الى فهم عميق لمراد الله تعالى منّا، ويوصي سماحته بان يقرأ الكتاب الكريم ثلاث قراءات، تارة يقرأ القرآن من أجل تهذيب النفس، فإذا مر بآية فيها تخويف وعذاب يستعيذ بالله من النار، وإذا مر بآية فيها جنة و رزق كريم استبشر بها، ويسأل الله أن يرزقه الجنة، فيصبح القرآن أنساً لك وتهذيباً لنفسك. و يوصي المؤمنين من الحجاج وغيرهم في البلاد الاسلامية أن لا يختاروا لقراءة القرآن الأوقات الضائعة، وإنما يقرأون القرآن في أفضل الأوقات وحين يكون العقل منفتحاً والروح مقبلة للتدبر في آياته، و يوصي أن يختموا القرآن الكريم في آيام الحج ولو ختمة واحدة، وأن يختموا القرآن الكريم كل شهر ولو مرة واحدة، ليتحول القرآن الكريم يوم القيامة بالنسبة إليه شافعاً مشفعاً وقريناً.
|
|