غير مصنف

تحقيق الوحدة الحقيقية في الأمة مسؤولية الجميع

من اخطر ما ابتليت به البشرية؛ الصراعات فيما بينها، علماً ان الله – سبحانه وتعالى – قد انذر بني آدم بانهم عندما يهبطون الى الارض سوف يكون بعضهم لبعض عدوا، وقد حدث اول مظهر من مظاهر الصراع

من اخطر ما ابتليت به البشرية؛ الصراعات فيما بينها، علماً ان الله – سبحانه وتعالى – قد انذر بني آدم بانهم عندما يهبطون الى الارض سوف يكون بعضهم لبعض عدوا، وقد حدث اول مظهر من مظاهر الصراع عندما قتل قابيل أخاه هابيل، ومنذ ذلك الحين استمرت المعارك الدامية حيناً، والباردة أحياناً أخرى. ولو تعمقنا في الأمر لوجدنا ان مشكلة الصراعات بين أبناء آدم تمثل أعمق وأخطر معضلة ابتليت بها البشرية، ويكفينا في هذا المجال ان نلقي نظرة واحدة على ميزانيات التسلح في هذا العالم، وعلى الحروب التي تبتلع جهود البشرية، والاذاعات والصحف ووسائل الاعلام الاخرى الموظفة لهذه الحروب، لنعرف مدى عمق هذه المأساة؛ فما حدث في لبنان والعراق وما يحدث اليوم في سوريا واليمن وليبيا ومصر وغيرها، لشاهد على ذلك.

ترى لماذا اختلف المسلمون؟ وما الذي جعلهم ينقسمون على انفسهم على امتداد اربعة عشر قرنا من الزمان؟ ولماذا بقيت قضية الوحدة معلقة طيلة هذه المدة؟ وما الذي يجب ان نفعله لكي نوحد الأمة؟ اسئلة عديدة تدور في ذهن كلّ منا، وتتمحور بمجملها حول‏ قضيتين متضادتين وهما؛ الوحدة والفرقة.

 لم نحن متفرقون؟!

لعل اهم الاسباب التي تقف وراء تفرقنا هي:

1- الجهل وتغيّب المنظومة الفكرية:

فالبعض يفتحون ثغرة في صف الأمة بتصرفات يزعمون انها ثورية، والبعض الآخر يفتحون ثغرة من منطلقات حزبية او انانية، هذه هي مشكلة المسلمين اليوم، فكل واحد منا يعتقد انه يمتلك صحيفة بيضاء عند الله – سبحانه وتعالى -، ويعتقد بانه هو الذي يمثل الوحدة وانه هو المحور، في حين ان الآخرين منحرفون كلهم؛ فهو يضفي بذلك الشرعية على كل اعماله في تغيب واضح للمنظومة الفكرية الاسلامية جهلا وتجاهلا.

لقد جاء الاسلام بفلسفة متكاملة في كل ابعاد الحياة، وتضمن منظومة وحدوية كاملة تتطلب منا اظهارها بشكل واضح اولا، ومن ثم اتباعها ثانيا؛ لتجاوز التفرقة الى رحاب الوحدة الحقيقية.

2- الحكام وفتنة التفرقة

ان ائمة الكفرواشياع الضلال يسعون من أجل بث الخلافات المذهبية، لانهم يعلمون ان وحدة الأمة الاسلامية، الاقوى والامضى من بين اسلحة المسلمين، ولذلك يعملون ضدها عبر استغلال التنوع العرقي والقومي والديني والمذهبي وغيرها من اجل ان يزرعوا الفرقة بين المسلمين، وانها لفتنة عمياء احرقت الاخضر واليابس، فعلينا ان نقاومها لان الفتنة اشد من القتل؛ فلابد ان نخمّد تلك الاصوات الناشزة التي تبث هذه الفتنة الطائفية العمياء، من هنا يجدر بالمسلمين جميعاً ان ينتبهوا لان هناك من يسعى ليزرع الفتن بيننا عبر كلماته وممارساته اليومية، ولنعلم ان الفتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، وانما تعم فتأخذ البريء بذنب المجرم.

3- طريقة التعامل مع الاختلاف في الراي

من اسباب التفرق ايضا طبيعة التعاطي مع الاختلاف في الرأي، ان الاختلاف في الرأي سيبقى مادام الاختلاف في المستويات لدى الانسان قائماً؛ فكما ان اصابع اليد الواحدة لا يمكن ان تتساوى وتتماثل، فان البشر ايضاً لايمكن ان يولدوا بمستوى واحد من العلم والفهم والوعي، لان التنوع يمثل طبيعة بشرية. ان المشكلة القائمة اليوم لاتكمن في الاختلاف ذاته، ولكن في طريقة التعامل مع هذا الاختلاف، الامر الذي ادى تلقائياً الى حدوث التفرقة والتفكك والتناحر. وعلى سبيل المثال فقد نجد في الاسرة الواحدة اختلافاً، ولكن طريقة التعامل مع هذا الاختلاف تتباين من اسرة الى اخرى؛ فمنهم من يفضه بالطلاق، ومنهم من يفضه بالمشاجرات، ومنهم من يحله من خلال التفاوض، وبصورة عامة فان كل اسرة من تلك الاسر تحل الاختلاف بطريقتها المفضلة. وهكذا كان حال البشرية التي كانت كثيرا ماتتوسل بالحروب‏ لتحل خلافاتها.

4- القوى السياسية الاستكبارية:

ان القوى السياسية التي كانت موجودة في السابق، والتي تريد ابقاء وتكريس الخلافات، والمؤمنة بمبدأ «فرق تسد» ما تزال موجودة حتى الآن؛ وهذا ما يمكن ان يفهمه، ويلمسه كل فرد واع، فالمستعمرون لايقولون للشعب صراحة انهم يريدون ان يقودوهم، وانما يستخدمون شتى الاساليب والوسائل الخفية واهمها اثارة فتنة التفرقة في الامة، بدعم هذا التكتل على ذاك وهذا البلد على ذاك وتسليح هذا على ذاك ، وما صفحة داعش إلا احد هذه الاساليب الخبيثة؛ ولذلك يجب ان نكون حذرين.

5- اتباع هوى النفس

إن النميمة والانانيات والذاتيات والعصبيات الاجتماعية والفئوية والحسد والنميمة والالتصاق بمفاتن الدنيا كلها نابعة من هوى النفس، وليست من الاسلام في شيء، وتدفع الانسان الى ان يسرق جهود غيره؛ فروحه تدعوه دوما الى العدوان على الآخرين، ولذلك نجد ان اكثر اسباب التفرق تنبع من هذه الطبيعة البشرية غير المهذبة؛ فكل واحد يظن انه يستحق اكثر مما يعطى له، وهنا يستغل الشيطان هذه الثغرة في نفس الانسان ليوسوس له أنه من المفترض ان يحتل المنزلة الفلانية، وان حقه مهضوم، وان الآخرين لا يقدرونه حق تقديره، في حين ان هذا التصور مغلوط من الاساس، لان الانسان لايستطيع ان يقيّم نفسه حسب ما يشاء.

 خطوات على طريق الوحدة

ان الوحدة لا يمكن ان تتحقق برفع شعاراتها، وإنشاء الاشعار، والقاء الخطب بشأنها؛ فالوحدة هي حقيقة لابد من ان نوجدها في انفسنا أولًا؛ فهي بذرة تنبت في قلب الانسان المؤمن ثم تنمو شيئا فشيئا حتى تصبح دوحة وارفة الظلال عظيمة الثمار؛ فهي تبدأ من:

1- الاعتصام بحبل الله

يبين القرآن الكريم أسس الوحدة فيقول:

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا}، (سورة آل عمران: 103)؛ فهل ان حبل الله هو القومية او العنصرية او الديكتاتورية، وهل يعني الاقليم او الدولة؟ كلا بالطبع، فالحبل الالهي يعني ان الله -جل وعلا- هو رب كل شي‏ء، وهو رب السماوات والارض، وخالقنا جميعاً؛ فعلاقة الله بي، وعلاقته بك، هي علاقة واحدة، لانه هو الذي خلقك وخلقني؛ فكلنا عباد له.

2- طاعة القيادة الربانية

كذلك فان طاعة القيادة الربانية هي جزء من الاعتصام بحبل الله ،اذ يقول تعالى:

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ…}، (سورة النساء: 59)؛ فهنا قرن الله طاعته وهي رمز الوحدة، بطاعة رسوله و أولي الامر من المعصومين من بعده، وان المعصومين قد أمرونا باتباع علمائنا؛ هذا الاتباع سيوحد الامة خلف قيادة ربانية واحدة تتقي الله -تعالى- في خلقه، وتصون دمه ومصالحه، وهذا ما وجدناه فعلا على ارض الواقع حينما انبرى علماؤنا بفتوى الجهاد المقدس في العراق، فصانوا الدماء والاعراض. واليوم ما احوجنا لاتباع قيادتنا الربانية اذا ما اردنا وحدة حقيقية لهذه الامة!

3- غرس الوعي والفكر المسؤول

منهجية الانسان في التفكير تحدد -عادة- مستقبله، ومن أهم ما ينبغي ان يحدده الانسان في حياته، هو هذه المنهجية؛ وذلك لان الفكر على نوعين؛ نوع يدفعك نحو تحمل المسؤولية، ويرفعك الى مستوى العطاء والتصدي، والنوع الآخر من الفكر هو ذلك الذي يكرس فيك حالة الخمول، ويزودك بالتبريرات والاعذار.

لقد لذنا ومنذ عقود طويلة بمنهجية التبرير التي كلفتنا الكثير من الهزائم والنكسات، والتي هي في حقيقتها منهجية القاء المسؤولية على الآخرين والتملص منها، فاذا بالمجتمع مسؤول، والحكومة مسؤولة، والتأريخ مسؤول، فكل شي‏ء مسؤول، لكنني انا الوحيد الذي أعد نفسي غير مسؤول؛ ان هذا النوع من التفكير هو الذي جعلنا نصل الى هذا المستوى المتردي.

4- تحقيق الحرية

من المستحيل ان نحقق وحدة بدون حرية، فنحن لا يمكن ان نقول بوجود الوحدة بين مجموعة بشرية او مجتمع او شعب او شعوب وهي لا تمتلك الحرية ولا تعيشها فحكم الحديد والنار للانظمة الظالمة قد يجعل الناس يقومون بكل نشاطات وممارسات الوحدة اجبارا لا اختيارا؛ فهذه ليست وحدة بل ان الوحدة انما تكون من خلال منح الحرية للجميع، وان يكون الرابط بينهم هو الوعي والثقافة وارادة الوحدة لا الاجبار.

ان الكثير من الشعوب تريد الوحدة الا ان كراسي حكامها تمنع ذلك وهي لا تمتلك الحرية ومسلوبة الارادة فلا حول لها ولا قوة.

5- حوار لا جدال ومنافسة لا صراع

ان للحوار الحضاري المتمدن اثراً عظيماً في تقارب وجهات النظر، وتفهم الآخر والقضاء على الاختلاف وازالة سوء الفهم، وعلى العكس من ذلك تماما يكون اثر الجدال، ان احد اهم اسباب تفرقنا يكمن في عدم قدرتنا على ادارة حوار ناجح، فما ان نبدأ الحوار حتى يتحول الى جدال عقيم تكون نتائجه عكسية تماما؛ فالصراع يولد الفرقة والاختلاف اما التنافس والتسابق بالخيرات فهما يقدمان ويرفعان شان الامة ومنزلتها بين الامم.

 التكتلات منطلق الوحدة

الوحدة تبدأ من ايجاد التكتلات الايمانية التي تعني؛ ان الانسان المؤمن لا يعيش الا ضمن وحدة وتجمع، كما يقول الامام امير المؤمنين،‏ عليه السلام: «والزموا السواد الأعظم فان يد الله على الجماعة، وإياكم والفرقة، فان الشاذَّ من الناس للشيطان، كما أن «الشاذّة من الغنم للذئب». أي إذا خرجت شاة واحدة من القطيع، وانفلتت في الصحراء، فانها ستكون طعمة سائغة للذئب. فعلينا ان نجتمع، علماً ان القرآن الكريم يخاطبنا دائما بصيغة الجمع كقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الْرَّاكِعِينَ}، (سورة البقرة: 43)، وقوله: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، (سورة يونس: 62) … فتراه يحرص دائماً على ان يستخدم الفاظاً وتعبيرات مثل: حزب، وجند، وطائفة؛ وعندما تتشكل لدينا تكتلات وتجمعات وفرق، لابد ان يحكمها قانون للتعاون والتضامن، كما يقول – تعالى-: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا}، (الحجرات/ 13).

وهذا القانون ينظم العلاقة بين اعضاء تلك التجمعات والتكتلات وبمزيد من هذا العمل سوف نستطيع ان نشكل الوحدة.

 من المسؤول عن الوحدة؟

ترى من المسؤول عن هذه الوحدة؟

هذه المسؤولية لا تقتصر على العلماء والمثقفين، فنحن جميعا مسؤولون عن تحقيقها، والمحافظة عليها؛ فالله -سبحانه- يخاطب الجميع: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا}، (سورة آل عمران: 103). فهو لايوجه خطابه الى شخص معين، بل على الجميع ان يعتصموا بهذا الحبل، وان يبذلوا الجهود من اجل هذه الوحدة؛ فانت عندما تكون شابا تطلب العلم في مدرسة او معهد او جامعة، فانك تستطيع ان تساهم في بناء كيان الوحدة. اما واجب العلماء فيتمثل في ان يكونوا هم المبادرين في هذه المسيرة، ان عالم الدين يكون في المجتمع محورا للوحدة، وحبلًا للاعتصام يتمسك به الجميع، لانه متصل بحبل الله؛ لأنه مصداق للآية ﴿وَاعْتَصِمُوا….

ان وحدة الأمة الاسلامية تبدأ مني ومنك، فنحن اللذان نضع اللبنة الاولى لها، وانا وانت نتوحّد، ونوحّد معنا الجماعات الاخرى، ونصبح كتلة واحدة، وشيئاً فشيئاً تنتشر هذه الوحدة كالنور. فالوحدة لا تأتي الينا من بعيد، بل منا تبدأ، والينا تنتهي. فالوحدة تمثل بناء متكاملًا لابد ان نضع لبناته الواحدة فوق الاخرى. برنامج طويل علينا ان نجهد انفسنا من اجل تطبيقه فهي تبدأ من الافراد،

ثم المجاميع الصغيرة حتى تبلغ ذروتها على نطاق الأمة الاسلامية، وهذا البناء المتكامل لايمكن ان يشيّد مرة واحدة، بل بشكل تدريجي، وبعد ان يجهد العاملون انفسهم في وضع احجاره ولبناته فوق بعضها.*

—————

* مقتبس من كتاب على (طريق الوحدة) لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي – دام ظله -/ بتصرف.

 

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا