رأي

فايروس كورونا.. فرصة لإعادة صياغة المنطلقات الفكرية لحضارتنا الإنسانية

فايروس كورونا الذي بات يشكل هاجس وقلق جميع الدول والأفراد في …

فايروس كورونا الذي بات يشكل هاجس وقلق جميع الدول والأفراد في العالم إلى حد الحيرة والإرتباك، لافرق بين دول ومجتمعات متقدمة وغيرها، و بدأ الإرتباك الهائل واضحاً على الجميع، بدءاً من المؤسسات التي تهيمن على واقعنا الإنساني في الوقت الراهن ومروراً بالهيئات الدولية التي تحتل موقع الصدارة في التصدي.

فقد كشف عن واقع مأساة خطيرة وعميقة تعيشها الإنسانية هي أخطر من الكورونا ذاته، والتي تتمثل في عمق العجز البشري وهشاشة حضارتنا الإنسانية القائمة، ومدى حجم الضعف والخواء الذي نعيشه كبشر رغم كل مظاهر الترف الذي تم تزييف وعينا به طيلة القرن الماضي.

و قد أتاح فايروس كورونا للبشرية فرصة تاريخية نادرة للوقوف بصورة تاريخية فذة ونادرة أمام الواقع، وهي ترى العالم بوضوح تام بلا أقنعة وبلا مساحيق تجميل، ليس فيه تزييف أو تزويق لواقع الحال، فقد أصبح العالم الذي نعيش فيه ولأول مرة في تاريخنا المعاصر عارياً ومكشوفاً بكل عيوبه ونواقصه، والثغرات التي تعصف بجداره، بعد أن أسقط الفايروس العتيد جميع أقنعة الزيف والتزوير المضللة التي كانت تغطي كل عيوبه، والتي مارس فيها العالم التضليل والتعمية على الواقع البائس الذي كنا نعيشه كبشر في هذا العالم.

لقد أصبحنا جميعاً اليوم نرى وبوضوح شديد لا يرقى إليه أدنى شك أو إرتياب عن حجم الخلل والخطل في عالمنا وحضارتنا الإنسانية القائمة، وليضع أمام أعيننا حجم الثغرات والنواقص الهائلة في القيم والمبادىء والاخلاق في شتى نظمنا الإدارية والسياسة والاقتصادية والتعليمية.

أتاح فايروس كورونا للبشرية فرصة تاريخية نادرة للوقوف بصورة تاريخية فذة ونادرة أمام الواقع، وهي ترى العالم بوضوح تام بلا أقنعة وبلا مساحيق تجميل

مذهل ما أنجزه فايروس ”الكورونا“ في بضعة أسابيع بما عجز عن تحقيقه الملايين من الصادقين والمخلصين من المصلحين على مر التاريخ من الذين ضحّوا من أجل الحقيقة، لكنهم عجزوا من أن يحققوا ما أستطاع هذه المخلوق الذّري من إنجازه خلال بضعة أسابيع قليلة، إذ جعل العالم كله يقف على الحقيقة مباشرة دون أغطية أو أقنعة، وجعلنا نقف أمامها بلا رتوش ولا مساحيق تجميل كانت تغطي فداحة ما كانت تعيشه البشرية من إنحطاط في القيم والأخلاق، ومن درجة شديدة من التخلف والإنحطاط حتى فيما كان يدعىه العالم من أنه حضارة ورقي وتطور.

لقد تاه العالم وضاع عندما حكمت شعارات الربح، وسيطرة قيم المنافسة غير الشريفة واللاأخلاقية في عقل ووجدان الحضارة الإنسانية، التي تم إستلابها من قيمها الخلاّقة، فلا أحد يتطلع لرفاه الإنسانية بقدر ما يعيش العالم حمى المنافسة على السيطرة والنفوذ والتحكم.

ففي السياسة، تم خنق الحرّيات بإسم العدالة التي إنعدم وجودها، رغم كل المظاهر الزائفة لها، فجميع انظمة القهر والإستبداد تحكي أسطورات غائبة غير موجودة وغير قائمة عن العدل والعدالة، وغابت (الدولة) كقيمة أخلاقية معنية بالنهوض بالمجتمعات البشرية وحمايتها وصيانة مواردها من العبث والهدر، وغابت معها كل قيم المواطنة الحقيقية، فأصبحنا في واقع (السلطة) وسيطرة حاكمية القوة ونفوذ من هم في السلطة، لتتحول الدولة من منطقتها في خدمة المجتمع إلى سلطة توظف كل موارد المجتمع من أجل حماية من يقفزون إلى السلطة.

فأصبحت السلطة مصدر تخمة (حريّات) لأرباب السلطة ورموزها، كما أصبحت هدفاً وغاية، يريد الكثيرون الوصول إلى منطقتها، لا لكي يتم الدفاع عن العدل في المجتمع ولا لإرساء قيمة الدولة كإطار لخدمة المجتمع وحمايته والنهوض به، وإنما كجسر للوصول إلى النفوذ والسيطرة والتمتع بالدولة كغنيمة ومكسب وعنوان للنفوذ والسيطرة.

وفي التعليم لازال الجري في الوقت الضائع لتوظيف التكنولوجيا في العملية التعليمية، حيث كان العالم غائباً عن الإبداع وظل أسير النمطية والأساليب التقليدية في العملية التربوية، رغم كل محاولات الظهور بالتطور والتجديد التي إجتاحت عقولنا لفترة غير قصيرة من الزمن حتى صدقنا كبشر أننا نعيش قمة التطور في حضارتنا الإنسانية، مع أنها كانت مجرد دعاوى تفتقد إلى المصداقية، ويجري تزويقها دون المساس بجوهر العملية التعليمية وأهدافها العميقة، لتبقى مع كل هذا الضجيج الذي إستهدف وعي البشريةجامدة في الجوهر والمضمون. وهكذا لم يخلق لنا العالم غير البيئة التي إعتدنا عليها منذ بداية عهد التعليم المعاصر قبل زهاء القرن من الزمن، فصول وكتب وواجبات منزلية وكشف درجات.

وفي الإقتصاد والتجارة، تأتي في ذات السياق من الأفكار، منافسة بلا حدود ولا قيم، تصل إلى حد الإحتكار وتقوم العملية الإقتصادية برمتها وفق منطق السيطرة والتحكم، فلا أحد يتحدث عن أهمية الإقتصاد التجارة وضرورتهما للخدمة الإجتماعية العامة، وكآلية للقضاء على الفقر وخلق الفرص المناسبة للمهمشين والمحرومين والمستضعفين من الناس في المجتمع.

وهكذا زادت الفواصل في الحضارة الإنسانية، وأصبحت (القوة) الغاشمة بما تعنيه من التفرّد في إمتلاك أسباب القهر والبطش، وتوفير حد التخمة من الحريّات والأمن والمال، لمن يمتلكون (السلطة)، ولبس الحضارة الإنسانية منطق (البقاء للأقوى) وأصبحت هي الفكرة الوحيدة الحاكمة والمهيمنة، وأضحت (السلطة) هي هدف الحضارة الإنسانية القائمة وهي الغاية الوحيدة التي تعطي فلسفة أكبر عملية تزوير وتزييف للوعي في هذه الحضارة.

سنكون متفائلين جداً بأن العالم سينهض من كبوته على منطلقات جديدة في الفكر، عندما تقوم شعوب الأرض بثورة تمرد حضارية كبرى على فساد القيم الحاكمة في حضارتنا الإنسانية

جاء الفايروس العتيد ليحدث زلالاً مدوياً في عقولنا وايقط في حضارتنا الإنسانية كم كنا متأخرين ومتخلفين، وكيف كنا نائمين، وكم كنا في غفلة، وكم كنا مخدوعين بسطوة الشعارات الزائفة، وكما كنا نعيش وهم الحضارة الإنسانية.
ورغم هذا الزلزال العنيف على إلى حد الصدمة على عقولنا ووجداننا، لازال العالم يمارس علينا التضليل والتزوير والتحريف، في أن هناك أهدافاً نبيلة يقوم بها من يحتكرون السلطة سوف تنتهي إلى تعزيز قيم الحضارة الإنسانية الخلاّقة، وعلى رأسها تحقيق العدل وإقامة بنيانه وتشييد صروحه ليكون سيداً وحاكماً على فكر وعقل حضارتنا الإنسانية، وبالذات النهج والأسلوب الذي تم فيه تضليل عقولنا وإستلال إرداتنا الواعية.

لقد تم خداع عقولنا، وأوهومنا بأننا نعيش في ذروة الحضارة الإنسانية، وإننا ننعم بذروة التقدم التقني والتكنولوجي، وذروة النظم الإجتماعية التي توفر العدل وتتيح فرص المساواة بين الناس، وكانت أكذوبة كبرى، جرفتنا في تيارها، حتى بتنا مع جميع المهمشين والفقراء الذين يأنون تحت رذيلة جشع الحضارة الإنسانية وسباقها المحموم للسلطة والإستحواذ على القوة ومصادرها، وما تمنحه من نفوذ وسيطرة وتحكم نصدق بأن النظم الإجتماعية القائمة والتي يحكمها قانون الغلبة والقهر بالقوة وأسبابها ووسائلها هي التي توفر للحضارة الإنسانية العدل والمساواة وتحقق لنا القوة الحضارية اللازمة التي تعطينا القدرة على مجابهة الأخطار المحدقة بمجتمعاتنا البشرية وحضارتنا الإنسانية.

إننا نقف اليوم، مع حدث كوني، نشاهد فيه العالم يعيش لحظة صادقة وللمرة الأولى مع عجزه وتخبطه وحالة الفوضى التي يعيشها، والتي كانت بطبيعة الحال ناجمة عن حجم الكذب والتزييف الذي غطى عقولنا خلال العقود الماضية من هيمنة فكر ومنطق ”السلطة“ في حضارتنا الإنسانية القائمة.

ليس من المستغرب أن نشاهد عجز وضعف العالم بكل مؤسساته وهيئاته في مواجهة وباء الكورونا، لأننا لم نكن نعيش إلا في وهم، وإنما نعيش في خدعة بصرية إسمها التمدن، فجميع مؤسسات السلطة كانت في خدمة أرباب السلطة وزبائنها، وكانت بفعل ذلك ”الدولة“ كأداة لخدمة المجتمع ووسيلة لحمايته والنهوض به معطلة ومهملة ومهمشة عن القيام بأي دور حقيقي في حياة مجتمعاتنا البشرية لأنها كانت تقوم بدور وظيفي لخدمة ”السلطة“، وهذه من الخطايا الكبرى التي أدت نتائجها إلى ما نعيشه اليوم من كارثة وتقف جميع هذه الهيئات وقفة المتفرج والعاجز.

مؤلم أن نجد هذا الغياب المتعّمد والقسري للدولة كمفهوم حضاري يسهم في الإرتقاء بإنسانيتنا لنجد أقوام السلطة وطلابها كيف يستنفرون طاقة مواردنا من أجل تعزيز سلطانهم وأستحواذهم على القرار والموارد، وكم هو قاس أنهم كيف أنهم لاذوا وما يزالون بالصمت والمجتمعات البشرية تعيش وجهاً لوجه في مواجهة تحدي وباء لا يبقي ولا يذر، وكيف أنهم فضّلوا الإختباء وراء الجدران في القصور وهم ينتظرون ”الفرج“ القادم من المجهول، دون أن يتحدث أحدهم عن مسؤوليته في تدمير الدولة وجميع القيم الخلاّقة التي تزخر بها.

وما هو أشد إيلاماً وأكثرة قسوة أن حضارتنا الإنسانية بلغ فيها الخلل إلى درجة بشعة بحيث لا تستوعب دروس وعبر التاريخ ولا أحداث واقعنا المعاش، وما يؤكد ذلك أنه إذا أنحسرت موجة التحدّي الراهنة وتم القضاء على الوباء الذي فتك بكل شيء في حضارتنا الإنسانية القائمة، سوف يعود المتربعون على عروش القدرة والسلطة مجدّداً بعد ذلك، ليواصلوا مسيرتهم ومنهجهم الذي أنتج كل هذا العجز والتخلف والإنحطاط في عالمنا، وسيعودون ليس لكي يصححوا مواطن الخطل والخلل لتمضي حضارتنا الإنسانية إلى أهدافها العميقة في سيادة إنسانيتنا، وإنما سيعودون بمعزوفات الإنجازات الأسطورية الفارغة لأرباب السلطات المستأثرة، وهناك من المطبلين الجاهزين للعزف على سيموفونيات البطولات الخارقة لأرباب السلطة وللقرقعة على رؤوس الأشهاد بالإنجازات التاريخية الكبرى لأصحاب المقامات الرفيعة في السلطات الحاكمة رغم كل الوضع الفاضح الذي يعيشونه في هذه اللحظات.

وإننا إذ نقف اليوم أمام الفاجعة العظمى ليس فيما سيؤدي إليه فايروس الكورونا من ضحايا لا ذنب لهم سوى أنهم عاشوا في ذات الزمن الذي جرت فيه أكبر عملية تضليل وتزييف لوعي البشرية والتي جرت فيها أبشع صور إستغلال القيم والمبادىء السامية، والتي تم فيها توظيف قيم عالية كالعدالة والمواطنة والحرية، بإستهتار بالغ كشعارات تغطي الفساد والظلم والإستبداد والسيطرة والإستغلال البشع للسلطة الغاشمة في تثبيت نظم الإستبداد والرذيلة وتحويل صورتها الكريهة لتصبح هي بذاتها مدارس العدل وآيات الأخلاق وأنموذج المواطنة الصالحة.

أسئلة ملّحة لابد أن تطرح ونحن في أتون معركتنا مع وباء الكورونا وهي برسم حضارتنا الإنسانية هل سيعيد العالم صياغة أفكاره وقيمه ومبادئه في إدارة حضارتنا الإنسانية؟
وهل نحن أمام فرصة جديدة ليعيد العالم صياغة منطلقاته الفكرية ليعيد هندسة بيت حضارتنا الإنسانية وفق منظومة جديدة من المنطلقات والأهداف تقوم على أساس تشييد وبناء مجتمعاتنا الإنسانية على ضوء القيم الحقة كالعدل والكرامة الإنسانية بدون تزييف أو تحريف؟
وهل ستفضي ضخامة الحدث إلى إقناع العالم بإعادة النظر في سياسات المحاور والصراع من أجل السيطرة والتحكم والنفوذ إلى سياسات جديدة تفضي إلى إنقاذ العالم من ويلات الحروب التي تنتجها وتولدها تلك الصراعات؟
وهل ستحل فكرة ”تكامل الحضارات“ بدل ”الصدام“ كعنوان للمرحلة القادمة من تاريخ حضارتنا الإنسانية بعد أن جرب العالم النتائج المدّمرة لمنطلقات الصراع لأهداف السيطرة والنفوذ والتحكم؟

لن نكون متفائلين جداً بأن العالم سينهض من كبوته على منطلقات جديدة في الفكر، مالم تقم شعوب الأرض بثورة تمرد حضارية كبرى على فساد القيم الحاكمة في حضارتنا الإنسانية اليوم، وتعلن تمردها بوضوح وبموقف صلب لرفض كل ما هو مخادع ومضلل. وربما هي الفرصة الذهبية السانحة التي تمثل الأمل الكبير الواعد للتغيير الحضاري العتيد المرتقب، فعالمنا المعاصر تقوده منطلقات بلغت من الفساد والرذيلة ما يحتاج إلى التحطيم بقوة حركة شعوب الأرض نحو الحضارة الإنسانية وناحية الإلتصاق بقيمها الصادقة، وهذا ما تستطيع شعوب الأرض فرضه على معادلات الإستغلال البشع للقيم الإنسانية العالية، وأن على الإنسانية بعد هذا الوجع المر حسم خياراتها في حماية حضارتنا لتحكمهم القيم والمبادىء السامية، وهي السبيل لوضع حد لعقود طويلة من الخداع والتضليل والتزييف، ولوضع نهاية لمدنيتنا من أن يقودها البعض بمنطلقات شيطانية تتصل بالسيطرة والنفوذ والقوة.

عن المؤلف

د. راشد الراشد

اترك تعليقا