ثقافة رسالية

القيم الدينية ودورها في استعادة الحضارة الإسلامية

تساؤل بين الفينة والأخرى على ألسنة الناس في بلادنا:

هل يمكن ان نعود الى الدور الريادي الذي كنا نؤديه في غابر الزمن؟

وبعبارة أخرى هل يمكن لحضارتنا التي سادت ثم بادت ان تعود مرة اخرى وتسود؟

والجواب: إن الحضارة التي تبيد تشبه السيارة التي تستخدم ثم تتحول الى خردة، واذا تساءلنا هل يمكن لسيارة استخدمت سابقا واستعملت، وتحولت الى كومة من الحديد والمواد المستخدمة، هل يمكن لها ان تعود أخرى سيارة فارهة تتسابق مع بقية السيارات؟

الجواب هو: إن ذلك ممكن بشرطين:

  • الشرط الاول: أن نعيد صناعتها بعد تحطيمها، أي أن نعيد السيارة السابقة بعد أن نقوم بإذابة الحديد من جديد، واعادتها الى جذورها واصولها الاولية، ومن ثم صبها من جديد في القالب الصحيح.

التصحيح وحده هنا لا ينفع، لأن صبّ الأموال على السيارة المستهلكة لا يحولها الى سيارة جديدة، وهذا يشبه أن نرمي ماءً      في بئر فهي تقول هل من مزيد، ولا تعيطك شيئا مما تريد.

 

إن الحقيقة المرة التي يجب ان نتقبلها هي اننا ضيعنا حضارتنا بايدينا، وذلك حينما ضيعنا ديننا

 

  • الشرط الثاني: أن نقيم مصنعا جديدا، يقوم بإعادة صياغة السيارة، أي القيام بما يسمى في اللغة الانكليزية بـ (ريسايكلنك ـ recycling)، ففي عالم اليوم كثيرة هي الاشياء التي تعاد صناعتها، مثلا الاوراق المستهلكة تُؤخذ وتعاد في مصانع خاصة، إلا أن الإعادة هذه لا تأتي من خلال مسح ما كُتب على الاوراق، وإنما من خلال ذوبانها واعادتها الى مادتها الاولية، ومن ثم صناعة الورق منها.

وبالنسبة الى حضارتنا الأمرأيضا كذلك، لا يمكن تصحيح حضارة سقطت مع وجود أسباب سقوطها فيها، لأن عوامل السقوط فيها هي التي أدت الى سقوطها فما دامت تلك العوامل موجودة فيكف يمكن اعادة حضارة لم تستطع ان تحافظ على نفسها بالرغم من تاريخها الطويل؟ كيف يمكن اعادتها بأخطائها، وبما كانت عليه قبل السقوط؟

بعضنا لا يزال يحلم باستعادة الخلافة العثمانية مثلا، وكأن تلك الخلافة كانت النموذج الافضل، وحتى لو كانت كذلك بالنسبة الى ذلك الزمان، فهي ليست النموذج الافضل اليوم، بالاضافة الى ان تلك الخلافة لم تسقط إلا لأن عوامل انهيارها كانت في داخلها، ولذلك سقطت، وإلا لم تكن لتسقط، إذ لا شيء يتبدل ويتغير في هذا الكون إلا بعلة وسبب؛ يقول تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

إننا يجب ان نعيد كل شيء الى اصوله، ونعود الى بناء جديد على تلك الاصول، مع قطع النظر عن الشكليات التي كانت قائمة في الماضي، مثل خلافة الذين تعاقبوا بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، باستثناء الامام علي، عليه السلام، او شكلية الخلافة الاموية، او شكلية الخلافة العباسية، او شكلية الخلافة العثمانية، كلها مجرد شكليات، مثلما السيارة التي استُهلكت كانت في شكل معين.

الحفاظ على ذلك الشكل، واعادة ذلك الشكل ليست هي المسألة الرئيسية، المسألة الرئيسية هي كيف نعيد السيارة بشكل تتناسب مع حاجتنا اليومية وتتنافس مع السيارات الأخرى.

حضارتنا يجب ان تعود، ليس بمعنى أن نعيد ذات الاشكال في الملبس والمسكن وطريقة الحكم وما شابه ذلك، وانما تعود بقيمها ومثلها ومبادئها، هذا هو الجوهر المطلوب.

أن نحافظ على الاصول، وان نستفيد من التجارب الايجابية في تاريخنا، ونتجنب التجارب السلبية التي ادت الى سقوط حضارتنا، ونأخذ خير ما توصل اليه العقل البشري، من دون ان نتجاوز ديننا وحضارتنا السابقة.

وهذه العملية ربما نؤدي الى اعادة حضارة مختلفة في الشكل، لكنها تحمل نفس الروح، ونفس القيم الحقة والمبادئ السامية.

فعلى سبيل المثال قد يكون شكل الحكم مثلما كان في العهود السابقة التي تارة اعتمدت على التعيين، وتارة تظاهرت بالشورى، بل ربما لابد من الاعتماد على الشورى في حضارتنا الجديدة.

 

حضارتنا يجب ان تعود، ليس بمعنى أن نعيد ذات الاشكال في الملبس والمسكن وطريقة الحكم وما شابه ذلك، وانما تعود بقيمها ومثلها ومبادئها، هذا هو الجوهر المطلوب

 

وقد تكون الشورى بشكل ديمقراطي يأخذ بعين الاعتبار كل الاصول التي نؤمن بها، لا بمعنى الديمقراطية الغربية التي هي الاخرى في حالة الاستهلاك، وربما لا تصمد كثيرا امام عوامل الزمن باعتبار أن عوامل انهيارها موجودة في داخلها، والدليل على ذلك أن هذه الديمقراطية تؤدي الى نتائج مأساوية، سواء على شكل استعمار الشعوب المستضعفة، او على شكل بروز قوى لا تمتلك الكفاءة اللازمة، ولا التقوى اللازمة لتبوَّأ مناصب عالية في الدولة وادارة امور الناس.

إن الحقيقة المرة التي يجب ان نتقبلها هي اننا ضيعنا حضارتنا بايدينا، وذلك حينما ضيعنا ديننا، وقد تسأل ما هو دور الدين في اعادة حضارتنا؟ أليس الدين مجموعة من الطقوس والعبادات؟

الجواب: نعم؛ إذا اخذنا الدين بهذا المعنى، وحصرناه في الجانب العبادي، ولكن الدين اوسع من ذلك بكثير، فالدين مجموعة متكاملة من التشريعات والاخلاقيات لا تقتصر على العبادات بل تتعداه الى كل جوانب الحياة، يقول تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

إننا اليوم قادرون على اعادة حضارتنا من خلال اعادة البناء القائم على الفهم المتكامل للدين، فنحن في الوقت الذي نقيم الصلاة في المجتمع فإن علينا ان نحقق العدالة الاجتماعية للناس جميعا عبر تعاليم الاسلام، إننا إذ نشيد المساجد فإن علينا أن نبني المدارس والجامعات لنشر العلم الذي حثنا الاسلام على طلبه، إننا نقوي علاقة الانسان بربه، وفي ذات الوقت لابد من ان نقوم بتقوية الروابط الاجتماعية القائمة على الاسس السليمة، ونبني انظمة التكافل والعدالة الاجتماعية.

إن حضارتنا في الماضي بلغت ما بلغته حينما التف الناس حول رسول الله، صلى الله عليه وآله، وعملوا بنهجه وشرعته، وهي اليوم يمكن ان تعود إذا عدنا الى ذلك النهج السليم، ولكن بشرط العودة الى النهج الكامل وليس المجتزأ.

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا