رأي

العراق أمام العاصفة

طالما راودني سؤال محيّر عما جناه العراقيون طيلة العقود الماضية من معرفتهم بالسياسة والسياسيين وتفاصيل الحكم، قراءتهم للصحف والمجلات؛ سياسية، وكذا الحال متابعتهم للاذاعات العالمية (لندن –واشنطن- موسكو- مونت كارلو) سياسية ايضاً، مع قليل من البحث عن المعرفة والثقافة، فناصروا هذا وصفقوا لذاك، بل بذلوا دمائهم لهذا وآمنوا بذاك بكل مشاعرهم وعقولهم.

والخطأ الأكبر منذ 2003 هو الابقاء على حالة التسييس في روح الشعب العراقي، وقتل روح العمل والابداع والانتاج، قبل قتل جسده بالانفجارات والاعمال الارهابية، فاذا كان يدور حول شخص واحد في السنوات الماضية، فإن التجربة الديمقراطية جعلته يدور حول اشخاص وجماعات يحبهم (الجماعات السياسية)، بالمقابل يتابع عن كثب جماعات يكرههم (الجماعات الارهابية)، فبات متخصصاً في هذه الجماعات مجتمعة؛ من يمولهم؛ ومن يدعمهم في الداخل والخارج.

كما هو حال الناس العاديين، فانه انسحب بشكل غريب وغير متوقع على الشريحة المثقفة –بعضها حتى لا نُعمم- فدخلت عن طيب خاطر في هذه الدوامة لينعكس على نشاطها الفكري في نشر اليأس والاحباط والتنظير له عبر وسائل الاعلام، وحتى في بعض المراكز الاكاديمية.

📌الحرب في اوكرانيا دفعت بالعالم أكثر من أي وقت مضى الى بلورة جبهات وتحالفات جديدة، فبعد الانتهاء من الاصطفافات في الشرق الاوسط

على هذا النسق من الحياة في العراق، ضمن المحيط الاقليمي والمحيط الدولي حياتهم ومصالحهم، فقد انكشف المستور عما يستفيده الآخرون من الفوضى والفساد في العراق، من قطعة الجبن الصغيرة وحتى المشاريع الاستثمارية الضخمة، وصولاً الى التفاهمات الثنائية بين العواصم المعنية لتقاسم النفوذ في المنطقة بعد جولة من الشدّ والجذب كان العراقيون يدفعون الثمن في هذا الوسط بدمائهم وثرواتهم.

السعودية وايران، من الصراع الدموي على النفوذ في العراق بعد 2003، واستخدام السعودية سلاح المفخخات والجماعات الارهابية والتكفيرية حتى تاريخ 2014، يتوصل الطرفان اليوم الى تفاهمات اساس و بوساطة عراقية! لايجاد توازن سياسي يعمّ المنطقة بأسرها.

ثم ايران والولايات المتحدة، والملف النووي، فقد تكفلت دولة قطر لاستضافة مباحثات مباشرة بين البلدين يُرجى أن تكون الخميرة الاساس على طاولة المفاوضات بين ايران والدول المعنية (الاتحاد الاوربي- بريطانيا- فرنسا- المانيا-روسيا) لإحياء الاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن بأمر من الرئيس السابق دونالد ترامب.

والحركة الاكثر دوياً في مسار التفاهمات والترتيبات الجديدة؛ الزيارة المرتقبة للرئيس الاميركي جو بايدن الى المنطقة، والطريقة التي سيجتمع بها مع زعماء دول المنطقة، فحسب الجدول المعلن، سيحطّ أولاً  في اسرائيل ثم في السعودية، ويدعو فيها زعماء الدولة الخليجية، بمعية مصر والاردن والعراق للحضور في قاعة الاجتماعات بالرياض، في اجتماع هو الاول من نوعه وشكله في التاريخ السياسي.

و لنتذكر كيف أن ترامب دخل العراق وحطّ مباشرة في قاعدة عسكرية اميركية بدعوى اللقاء بالجنود الاميركان، وعندما اتصل به رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي والسؤال منه عما اذا كان ينوي زيارة بغداد، جاءه الرد بالرفض، وقال له ترامب، إن كنت ترغب بلقائي فانا موجود في القاعدة العسكرية! فردّ عليه الرئيس العراقي بالرفض ايضاً.

 

📌إن البنية التحتية المتماسكة للمجتمع هي التي تضمن الحياة السياسية الناجحة، وليس العكس كما أوهمونا طيلة عقود طويلة من الزمن

الحرب في اوكرانيا دفعت بالعالم أكثر من أي وقت مضى الى بلورة جبهات وتحالفات جديدة، فبعد الانتهاء من الاصطفافات في الشرق الاوسط، وتحديد جبهة ايران من جبهة العرب واسرائيل، بات ضرورياً تحديد جبهة روسيا والصين من جبهة الغرب بأكمله، الى درجة أن تتخلّى دولتان مثل السويد فنلندا عن حيادهما وهدوئهما التاريخي وابتعادهما عن النزاعات السياسية والعسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، و تطلبا الانضمام الى حلف الشمال الاطلسي لمواجهة التمدد الروسي.

الاحداث المتلاحقة تدعونا للتفكير الجدّي بالمستقبل وبالحاضر في آن، فالعراق ليس بحاجة لخوض السباق على النفوذ مع الآخرين، بقدر ما يحتاج للابتعاد قليلاً عن السياسة بشكل عام، والخوض في المشاريع التنموية والبناء الثقافي مدعوماً بقدراته الثرية المحسود عليها، وليس أقلها؛ الثروات تحت الارض، والقدرات البشرية فوق الارض من شريحة الشباب المتحفر وىالمبدع، وموقع استراتيجي وعمق حضاري، ليحقق الهدف المنشود؛ الاستقلال في التفكير والقرار في كل شيء، وهذا ممكن بخطوتين –من جملة خطوات-:

الاولى: نشر ثقافة الأمل والثقة بالنفس، وهذه مهمة الكتاب الاعلاميين في وسائل الاعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي وعلى منابر أخرى توصل الكلمة الحيّة الى الناس لتبعث فيهم الحياة.

الثانية: بلورة افكار تنموية لإعادة إحياء الاقتصاد العراقي من نقطة الصفر، ولا ضير في الأمر، فكل الدول المتقدمة بدأت من الطفل الصغير وحصالته الصغيرة التي يدخر فيها المال، والعامل البسيط المبدع والمنتج في ورشته الصغيرة، فلم تظهر المصانع الضخمة من تحت الأرض مطلقاً.

الخطوتان لا تأتي من احزاب سياسية بقدر ما تولد من رحم المجتمع وتطلعات الناس ومعاناتهم اليومية، فكما أن العامل والفلاح هما اللذان يحركان عجلة الاقتصاد، فان الاكاديمي المختص بالاقتصاد والادراة والنفط والهندسة هو الذي يرسم طريق الصعود الى مراتب النجاح، بما يعني الحاجة الى نوع من العلاقة التكاملية بين ابناء المجتمع وشريحته المتعلمة والمثقفة على اساس من الودّ والتفهّم والاحترام.  

إن البنية التحتية المتماسكة للمجتمع هي التي تضمن الحياة السياسية الناجحة، وليس العكس كما أوهمونا طيلة عقود طويلة من الزمن، عندما كان الحاكم هو الذي يطعم المواطن، وهو الذي يوفر له السكن والعمل، بل هو الذي يفكر نيابة عنه.

إنها لحظة تاريخية، ومسؤولية أخلاقية وحضارية عظمى في مرحلة حساسة من تاريخ المنطقة لا يجوز التهاون فيها مهما كلف الأمر، والتحرك في هذا المسار التنموي لن يُغيض أحداً، فهي ليست صواريخ بعيدة المدى، ولا مشروع نووي مريب، ولا مخططات توسعية بقدر ما هي برامج خاصة تعني بتحسين الوضع المعيشي للناس، ثم تطوير الاقتصاد ومن ثم السياسة بما يجعل العراق بلداً محترماً و ذو شأن في محيطه الاقليمي والدولي، بإمكانه التفكير واتخاذ القرار مستقلاً دون الحاجة الى الآخرين.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا