أسوة حسنة

الرسالة الإصلاحية للبكاء في حياة الإمام زين العابدين

استشهد الإمام الرابع  عليه السلام في 25 محرم الحرام سنة 95هـ ودفن في بقيع الغرقد

مقدمة

ما أجمل الحياة حين نفهمها، وما أتعسها حين لا نعي رسالتها، وذلك لأن الحياة ليست رحلة صيد لاهية، ولا هي لعبة كرة عابثة، بل الحياة خُلقت لأجل هدف سامي، ورسالة راقية، وصدق مَنْ قال: “إن الحياة عقيدة وجهاد”.

فما أجدر بالإنسان أن يعرف رسالته في حياته، وإلا عاش الضياع والتيه ولو عاش ألف عام، فحياته كموته لأنه أشبه بميِّت الأحياء، ورسالة الحياة هي مسؤولية الجميع وتقع على عاتق الشخص نفسه، وذلك لأنه هو صاحب المشروع ـ حياته ـ وهو الذي يزرع في هذه الدنيا ليحصد ما زرع في الآخرة، وفيها حساب دقيق؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. (الزلزلة: 8).

كان من سيرته التربوية في مجتمع المدينة أنه لا يكتفي بالبكاء في بيته وعلى سجادته، ووسادته الشريفة بل كان يخرج إلى المجتمع ليصرخ بهم، ويوقظهم على عظيم الجرم والكارثة التي ارتكبتها السلطات الأموية الظالمة

فهناك الناقد بصير، وبخلقه خبير، خلقهم ليمتحنهم، ويختبرهم، فالحياة جامعة وفيها قاعات امتحان في النهاية يُكرم المرء أو يُهان، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}. (الأنبياء: 35)، فالإنسان مخلوق مكرَّم، ومفضَّل، على جميع الخلق، ومن ذلك كان التكليف له بالعبادة، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).

فالأمر والتكليف الإلهي تشريف ما بعده تشريف لهذا المخلوق الضعيف الذي جعله خليفته في أرضه وأسجد له ملائكة سماواته، ورفع من شأنه حين جعل منه أشرف وأعظم وأكرم خلقه طراً الحبيب المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله، وعترته الطيبين الطاهرين، عليهم السلام، فهذه المنزلة والخصيصة يغبطه عليها حتى الكروبيين من ملائكة الرب سبحانه وتعالى، كما يفتخر سيدهم جبرائيل، عليه السلام، حين دخل معهم تحت الكساء اليماني في الحديث الشريف المشهور.

الإمام زين العابدين عليه السلام 

وعلي بن الحسين الإمام الرابع من أئمة المسلمين عليه السلام، هو ابن ووريث جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، من هذه الأمة، والاختبار الذي خاضه وعاشه الإمام الرابع، عليه السلام، لم يمر على أحد من العالمين، وذلك لأنه شَهد وشاهد ما لم يشهده أحد، وذلك في مجزرة كربلاء، ومذبحة عاشوراء، حيث تقدَّمت تلك الضحايا الطاهرة على مذبح الحق والحقيقة فكانوا قرابينه، وكان سيد الشهداء والده الإمام الحسين، عليه السلام، قربان الله في هذه الحياة.

فالإمام السجاد عاش مع جده أمير المؤمنين ثلاث سنوات، ومع عمِّه الإمام الحسن المجتبى ثلاثة عشر سنة، ومع أبيه الإمام الحسين حوالي أربع وعشرين سنة، وفي يوم عاشوراء كان متزوجاً من ابنة عمِّه السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن، عليه السلام، ولديه منها الإمام الخامس محمد الباقر الذي بقر علوم الأنبياء والمرسلين، وحضر وشهد كربلاء وكان من جملة الأسرى كذلك.

فزاد امتحان الإمام زين العابدين، عليه السلام، على امتحانات أبطال كربلاء بأنه عاش مصرعهم جميعاً، ثم صار أسيراً مكبلاً بالحبال والجامعة في عنقه، يُسار به من كربلاء إلى الكوفة حيث حاول الطاغية عبيد الله قتله لولا فداء السيدة زينب  عليه السلام له، ثم يتنقل مع السبايا في أربعين منزلاً حتى وصلوا بهم إلى الشام التي أبكته طيلة عمره وحياته والتي طالت حوالي أربع عقود من الحزن والأسى الذي حوَّله الإمام زين العابدين إلى رسالة، ومسؤولية، وعاش حياته بالحزن والبكاء.

بكاء الإمام زين العابدين  عليه السلام

  البكاء شعيرة مقدسة ورسالته عظيمة جداً لمَنْ يفقهها، وأما الجفاة الغلاظ فلا شأن لهم بها لأنها تعبِّر عن رقة القلب، ورهافة الحس، ودقة الشعور، وطفحان الشوق، وهذه كلها من أجلِّ وأعظم صفات الإنسانية والفضيلة في الإنسان، حتى أنه اشتهر في البشر خمسة من عظمائهم وسادتهم الكبار من البكائين وهم: (آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وآله، وعلي بن الحسين، عليه السلام، فهل بكي هؤلاء الأفذاذ على الدنيا أو أنهم بكوا لأمر عظيم أجل من الدنيا وما فيها؟

فالإمام زين العابدين، عليه السلام الذي طال بكاؤه بعد مأساة عاشوراء حتى التحق بالشهداء في شهر محرم الحرام أيضاً، فعَنِ الإمام الصَّادِقِ، عليه السلام: “أَنَّ زَيْنَ الْعَابِدِينَ بَكَى عَلَى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً صَائِماً نَهَارُهُ قَائِماً لَيْلُهُ، فَإِذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ جَاءَ غُلَامُهُ بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَيَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: كُلْ يَا مَوْلَايَ”.

فَيَقُولُ: “قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وآله، جَائِعاً، قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ عَطْشَاناً، فَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَيَبْكِي حَتَّى يُبَلَّ طَعَامُهُ بِدُمُوعِهِ وَيُمْزَجَ شَرَابُهُ بِدُمُوعِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ“. (وسائل الشيعة: 3 / 282).  

وكان الإمام، عليه السلام، إذا أخذ الإناء ليشرب الماء تذكر عطش أبيه ومَنْ معه، فيبكي حتى يمزجه من دموعه، فإذا قيل له في ذلك فيقول: “كيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي هو مطلق للوحوش والسباع“. (بحار الأنوار: ج 46، ص 108).

وكان من سيرته التربوية في مجتمع المدينة أنه لا يكتفي بالبكاء في بيته وعلى سجادته، ووسادته الشريفة بل كان يخرج إلى المجتمع ليصرخ بهم، ويوقظهم على عظيم الجرم والكارثة التي ارتكبتها السلطات الأموية الظالمة الحاكمة، فكان إذا مرّ في سوق المدينة على جزّار بيده شاة يجرّها إلى الذبح، فناداه الإمام، عليه السّلام: “يا هذا، هل سقيتها الماء“؟ فقال الجزار: نعم يا بن رسول الله، نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتّى نسقيها الماء.

فبكى الإمام، عليه السلام وصاح: “والهفاه عليك أبا عبد الله! الشاة لا تُذبح حتّى تُسقى الماء، وأنت ابن رسول الله تُذبح عطشان“. (وسائل الشيعة: ج3 ص282).

الإمام زين العابدين، عليه السلام، استطاع أن يبث في المجتمع الأصول الروحية عن طريق البكاء والحزن المقدس، والدعاء وهو سلاح الأنبياء  عليه السلام ليُهيئ الأرضية التربوية في المجتمع الإسلامي للتغيير الفكري والثقافي والعقائدي

هذا هو الحزن المقدس والرسالة التربوية في المجتمع الإسلامي المختطف والمحكوم قهراً، بالحديد والنار، بل هي رسالة سياسية قوية جداً وصرخة بوجه الحكم المجرم الظالم الذي ارتكب تلك المذبحة لرهط النبي وثقله دون رحمة وبلا أي ذنب ارتكبوه أو جرم اقترفوه وكأنه يصرخ بالأمة وفي المجتمع: قتلوا سيدكم وإمامكم دون ذنب هلا ثرتم عليهم واقتصصتم منهم لإمامكم؟!

وقال له شخص ذات مرة: “أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال عليه السلام: “ويلك، لقد شكا يعقوب إلى ربه في أقل مما رأيتُ حين قال: “يا أسفي” ولم يفقد إلا ابناً واحداً، وهو حيٌّ في الدنيا، وأنا رأيتُ أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي“. (أعيان الشيعة، ج 1، ص 636).

فهذا بكاء تربوي، وسياسي، وجهادي، ورسالي، وثوري، ونهضوي، يُريد منه الإمام زين العابدين، عليه السلام أن تعلم الأمة، والمجتمع، بل الإنسانية أسبابه ودواعيه وبالتالي أن يتعرَّفوا على عظيم الجرم والمأساة التي جرت في يوم عاشوراء على أبيه وإخوته وأعمامه وجميع الشهداء مع أبيه، عليه السلام، أي أنه  كان يُريد أن يُرسخ جذور المسألة في المجتمع الإسلامي، ويُثبِّت فيها أسس النهضة الحسينية المباركة، ويرفع من الشعارات ما تتناقله الأجيال، وتتوارثه الثورات الرافضة للظلم.

 سلاح الدعاء النافع

على صاحب الرسالة واجب أن يؤديها، ولكن كيف يؤديها مَنْ كانت رسالته اجتماعية ودينية في ذلك العصر الأموي الغارق في الظلم والجهل والظلام والتخلف العقائدي؟ إنها مسألة في غاية الدِّقة والحساسية، ولكن الإمام المسدد والمؤيد من الله تعالى له من الطرق والأساليب ما يُبهر الخصم ويبهته كما فعل جده إبراهيم الخليل حين بهتَ نمرود الذي كفر.

فأبدع الإمام زين العابدين، عليه السلام، أسلوب الدعاء ليبعث في الأمة روحها، ويُنمِّي فيها تديُّنها، ويُعيدها إلى ربها بطريقة سهلة سلسة لا يمكن لأحد من الطغاة أن يعترض عليه فيها، لا سيما وأنها سلاح الأنبياء، وعبادة راقية جداً أمر الله بها في قوله سبحانه: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ“. (غافر: 60).

فكان أجمل وأعظم ثروة تربوية وروحية هو ما بثه الإمام زين العابدين، عليه السلام، من خلال أدعيته التي استغرقت كل نواحي الحياة، والتي جُمعت في صحيفته السجادية وعُرفت بزبور آل محمد، لما لها من رسالة وعظيم فائدة تربوية للمجتمع الإسلامي الذي تبلَّدت مشاعره، وفقد روحه تحت سياط الظلم الأموي، فجاء الإمام زين العابدين لبعث فيه تلك الروح الإيمانية الراقية جداً.

وأخيراً؛ إن الإمام زين العابدين، عليه السلام، استطاع أن يبث في المجتمع الأصول الروحية عن طريق البكاء والحزن المقدس، والدعاء وهو سلاح الأنبياء  عليه السلام ليُهيئ الأرضية التربوية في المجتمع الإسلامي للتغيير الفكري والثقافي والعقائدي الذي ظهر فيما بعد في مدرسة الإمام الباقر، عليه السلام، وشاع وتبلور وظهر أكثر في عهد الإمام الصادق  عليه السلام الذي قام بأعظم ثورة تغيير فكري وثقافي في التاريخ الإسلامي وربما البشري كله بعد جده رسول الله، صلى الله عليه وآله.

فالسلام على باعث الروح في الأمة الإمام زين العابدين وتاج البكائين ولسان الداعين الضارعين.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

1 تعليق

اترك تعليقا