لماذا نبدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) ؟
|
*كريم عبد الله
هذه الآية الكريمة هي شعار القرآن حيث تبدأ سور القرآن كلها بهذه الآية - باستثناء سورة التوبة، لأنها بدأت بإعلان الحرب على الكفار فلا يناسب ذلك افتتاحها بالرحمة.
وأن القرآن الكريم يحتوي على 114 سورة، وحيث أن البسملة تكررت في سورة النمل مرتين: مرة في مفتتحها ومرة في قوله تعالى حكايةً عن بلقيس ملكة سبأ حين ألقي عليها كتاب كريم: "إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، لذا تكون البسملة قد تكررت في القرآن الكريم 114 مرة بعدد سوره تماماً. ولعل هذا التطابق يرمز إلى أن النظام التشريعي الذي احتوى عليه القرآن الكريم يبدأ من الله وتلفه الرحمة من أوله إلى آخره، كما هو النظام الكوني الذي يستوعب الكون كله.
كما إن هذه الآية الكريمة هي شعار المسلم في كل عمل يقوم به حيث ورد في الحديث الشريف: (كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر.)1 وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): (سرقوا أكرم آية في كتاب الله (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، وينبغي الإتيان به عند كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه) 2
لماذا البدء بالبسملة؟
من الضروري أن يكون هنالك تطابق تام بين (الواقع الشعوري) و (الحقيقية الخارجية) لكي تكون مسيرة الفرد سليمة في الحياة، أما إذا حدث الانفصام بين الواقع الشعوري والحقيقة الخارجية فإن ذلك يؤدي إلى اختلال المسيرة وارتباك الأمور، ويتضح ذلك إذا لاحظنا الحقيقتين التاليتين:
الحقيقة الأولى: أن المحرك للإنسان هو الشيء بـوجوده العلمي لا بـوجوده العيني، فلكل شيء وجودان حقيقيان: عيني يتمثل في الوجود الخارجي للشيء كوجود الشمس الخارجية في كبد السماء، و علمي و يتمثل في الوجود الذهني للشيء كوجود الشمس في لوحة ذهنك حينما تتصورها، وإن كنت في الظلام البهيم. هذا مضافاً إلى وجودين آخرين اعتباريين هما: الوجود اللفظي والوجود الكتبي.
والذي يحرك الإنسان هو الوجود العلمي للشيء لا الوجود العيني. فإذا تصور الإنسان وجود خطر داهم يهدد حياته كحيوان مفترس يحاول أن يلتهمه، فإنه سوف يفر بنفسه وإن لم يكن هذا التصور يملك أي رصيد من الواقع، وبالعكس، وإذا كان هنالك خطر حقيقي يهدد حياته لكنه لم يشعر بذلك الخطر فإنه سوف يظل في مكانه دون أن يفكر في النجاة بنفسه.
فالمحرك للإنسان بل لكل كائن واع، هو الشيء بوجوده العلمي لا بوجوده العيني - حسبما تبين ببرهان الدوران الترديد الذي مر آنفاً-.
الحقيقة الثانية: إن للحقائق الخارجية آثاراً وضعية لا تناط بالعلم بها، بل تترتب عليها. فالنظام الكوني نظام صارم، لا يتحمل أية معارضة، فكل خروج على هذا النظام يستتبع عواقب وخيمة دون فرق بين أن يكون الخارج على النظام عالماً بعواقب خروجه أو جاهلاً بذلك.
إن الجهل بالقانون أو بالآثار المترتبة قد يشفع لصاحبه في ارتفاع المؤاخذة القانونية، لكنه لن يكون شفيعاً له في ارتفاع الآثار التكوينية، فمن تحدى قانون الجاذبية وحاول أن يطير إلى السماء من سطح عمارة شاهقة فسوف تطرحه الجاذبية أرضاً وتتركه جثة مهشمة دون حراك، وإن تصور أنه يستطيع أن يقلد الطيور في طيرانها، وهكذا في سائر الأمثلة.
وعلى ضوء هاتين الحقيقتين نستطيع أن نعرف أن أي انفصام بين الواقع الشعوري والحقيقة الخارجية سوف يجر الفرد إلى الجري العملي وفق تصوراته الذهنية المناقضة للواقع، وعندئذ، يطاله عقاب التمرد على النظام الكوني دون هوادة.
عودة إلى الآية
وانطلاقاً مما تقدم نقول: إن الله سبحانه وتعالى في الواقع الخارجي مبدأ لكل شيء، ومصدر لكل شيء، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، فكل الذوات تستمد كينونتها من كينونته، وكل الصفات تستمد وجودها من وجوده، لأن كل الذوات وكل الصفات أمورٌ ممكنةُ الوجود - (أي) لا تستمد الوجود من ذاتها - فأنت لم تكن ثم كنت، وعلمك لم يكن ثم كان، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن وجوده مستمد من ذاته، إذ أن (فاقد الشيء لا يعطيه)، فلابد أن ينتهي وجودك الإمكاني إلى وجود واجب الذات وهو الله سبحانه وتعالى، ولابد أن ينتهي علمك الإمكاني إلى علم واجب بالذات وهو علم الله سبحانه وتعالى، وحسب التعبير الفلسفي: فإن كل ما بالآخرين لابد أن ينتهي إلى ما بالذات. فدسومة كل شيء من الدهن، أما دسومة الدهن فمن ذاته، ونورية كل شيء من الضوء، أما نورية الضوء فمن ذاته.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قبل كل شيء في الواقع الخارجي فيجب أن يكون قبل كل شيء في الواقع الشعوري لكي تتطابق الواقعيتان ولا يحدث أي انفصام بينهما، فقبل كل شيء لابد أن نرى الله سبحانه ونستشعر بوجوده وقدرته وهيمنته. ولذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه).
والالتفات إلى هذه الحقيقة ذو آثار جمة في فكر الإنسان وسلوكه، إذ سوف يتجه الإنسان بكله إلى ربه، ويتوكل عليه، ويستمد كل شيء منه، ولا يعود يتخذ أرباباً من دون الله سبحانه بتوهم أنها تنفعه أو تضره، إذ كل شيء في هذا الوجود مرهون بمشيئته سبحانه وتعالى.
2 / نفسه، ج11 ـ ص129
3 / نفسه، ج11 ، ص 258
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------
|
|