البحر وفنونه في الشعر العربي
|
*علي ياسين
تشير النظرة المتفحصة للشعر العربي القديم الى انه ليس مدعاة للاستيقاف والتأمل بجوانبه الفنية فقط بل إنه يمثل مصدراً مهماً من مصادر المعرفة ونظرية الابداع فيه عبر دراسة هذا الموروث وتأسيس رؤية متسعة له، فالشعر العربي هو إرث الشاعر والباحث والدارس وهو في متناول الجميع ولاغنى لهم عنه فهو يشكل عنصراً مهماً من عناصر التكوين الابداعي.
فالغاية من استشارة الدارس او الباحث التراث هو تقديم مادة وثائقية عميقة عنه والالمام بالجوانب المتعددة لذلك التراث بأبعاده الاجتماعية والسايكولوجية والتاريخية والفكرية. لذا كانت النظرة السطحية العجلى على الشعر العربي القديم وخاصة الجاهلي من قبل بعض الدارسين نظرة غير منصفة وغير مكتملة لهذا التراث حينما اقتصرت دراساتهم على بعض النماذج منه ولم يستقصوا دواوين الشعراء الجاهليين وكذلك دواوين شعراء العصور اللاحقة كما لم يستقصوا المصادر الادبية والتاريخية المهمة كالاغاني وكتب الحماسة وكتب الامالي وكتب اللغة والادب والمعاجم وشروحها واستدراكاتها فأن فيها ما يناقض نظرتهم الضيقة الى التراث حينما ذهبوا الى القول بان الشعر الجاهلي اقتصر على تصرير الصحراء والابل والبكاء على الاطلال وغيرها من مظاهر الحياة البدوية. ورغم ان هذا القول يمثل حقيقة تلك الفترة والبيئة لكنه لايمثل الحقيقة كلها بل جزءاً منها. فبالعودة على هذا التراث بنظرة عميقة متفحصة بجد مايقوم هذا القول ويعكس خبرات اجتماعية ومظاهر لحياة زاخرة متنوعة متعددة فرغم ان الشاعر العربي القديم عاش في الصحراء الجافة وتأقلم على مظاهر الحياة فيها إلا انه عرف البحر وفنونه معرفة لا تقصر عن معرفته بالصحراء ومظاهرها ويدلنا على ذلك تصويره في الكثير من معانيه في شعره فقد ورد ذكر البحر في الشعر الجاهلي في مواضع عديدة كما ذكرت حالاته من مد وجزر واحوال الامواج والسفن واشكالها واجزائها وحركاتها وكيفية صناعتها وتدلنا قصيدة بشر بن ابي خازم (ت 598 م) على مدى اجادة العرب في صناعة السفن كما يدلنا استخدامه للكلمات والمصطلحات البحرية على خبرتهم في البحر والملاحة يقول بشر:
أجالد صفهم ولقد أراني
على قرواء تسجد للرياح
معبدة السقائف ذات دسر
مضبرة جوانبها رداح
إذا ركبت بصاحبها خليجا
تذكر مالديه من جناح
يمر الموج تحت مشجرات
يلين الماء بالخشب الصحاح
ونحن على جوانبها قعود
نغض الطرف كالابل القماح
فقد أوقرن من قسط ورند
ومن مسك أحم ومن سلاح
فطابت ريحهن وهن جون
جآجئهن في لجج ملاح
ففي هذه الابيات يصف بشر حركة السفينة في الماء وصفاً رائعاً فشبه في البيت الاول السفينة بالقرواء وهي الناقة الطويلة السنام اما حركتها بفعل الرياح فيصورها وهي تميل معها حيثما امالتها كأنها تسجد لها اما في البيت الثاني فقد احاط في وصفه بطريقة صنع السفن فأشار الى انها كانت تصنع من سقائف أي الواح الخشب ثم تعبد بالقير وهي مضيرة اي مجتمعة الى بعضها بواسطة الدسر جمع دسار وهو حبل الليف ورداح أي واسعة ويبدو انها كانت سفينة كبيرة ودل على ذلك البيت السادس الذي يشير فيه الى انها كانت سفينة تجارية كما يتضح ايضا انها كانت قادمة من الهند لان جوانبها أوقرن أي حملن بالقسط وهو عود هندي يستعمل كبخور ودواء والرند وهو عود طيب الرائحة والمسك الاحم اي الاسود ومن خلال هذا الوصف نجد أن منظر السفن وجريها كان مألوفاً عندهم من خلال صلاتهم التجارية بالبلدان المختلفة كما يدلنا البيت الرابع الذي اشار فيه بشر الى السفن وهي رائحة وغادية فذكرها بقوله (يمر الموج تحت مشجرات ) اي السفن. ونجد في الشعر العربي الكثير من تشبيه الضعن المرتحل في الصحراء بالسفن العظام التي تسير في عرض البحر وقد تكرر هذا الوصف كثيراً وتراوح بين الايجاز والتفصيل فمن ذلك قول ابن نمير الثقفي:
لمن الظعائن سيرهن تزحف
عوم السفين اذا تقاعس يجذف
مرت بذي خشب كأن حمولها
نخل مواقر حملها متضعف
وكما نرى البكاء على الاطلال الخالية نرى البكاء على السواحل بعد ان فرق البحر بين الاحبة يقول السويفي وهو ينظر الى السفينة وهي تبتعد وعلى ظهرها أحبة:
لما رأيت السفين منحدراً
أبعد عن مقلتي اغفائي
وقفت أبكي على سواحلها
فمن بكائي زيادة الماء
وفي هذا المعنى ضمن الخباز البلدي الآية الكريمة تضميناً رائعاً بقوله:
قد قلت اذ سار السفين به
والشوق ينهب عبرتي نهبا
لوأن لي عزاً أصول به
(لأخذت كل سفينة غصبا)
ويشبه الحلبي السفن بالضعن المرتحل والملاح بالحادي الذي يحث اولاهن كانه يحث بعيره على السير في مقدمة الضعن يقول:
ماترى السفن كيف تعلو حباب الماء
مثل المطي تعلو الكثيبا
وكأن الملاّح إذ حث اولاهن
حاد غدا يحث نجيبا
ويرسم عمرو بن براقة صورة السفينة في وسط الامواج المتلاطمة في ليل رهيب فيقول:
ألاهل للهموم من انفراج
وهل لي من ركوب البحر ناجي
أكل عشية زوراء تهوي
بنا في مظلم الغمرات ساجي
يشق الماء كلكلها ملحاً
على ثبج من الماء الأجاج
كأن تتابع الامواج فيه
نعاج يرتعين الى نعاج
وشبه الوليد بن عبيد كثرة قومه وقوتهم بأمواج البحر العاتية المتصلة دليلاً على شدة البأس فقال:
يسوقون اسطولاً كأن سفينة
سحائب صيف من جهام وممطر
كأن ضجيج البحر بين رماحهم
اذا اختلفت ترجيع عود مجرجر
ويصف الاسود بن بلال الرياح الشديدة وهي تعصف بالسفينة وصوت هدير البحر فقال:
أقول وقد راح السفين ملججاً
وقد بعدت بعد التفرق دور
وقد عصفت ريح من الموت قاصف
وللبحر من تحت السفين هرير
واذا كان هذا الوصف مختصراً قصيراً فاننا نجد وصفاً مطولاً دقيقاً لهياج البحر واضطراب السفن فيه عند مسلم بن الوليد في قصيدة طويلة منها:
وملتطم الامواج يرمي عبابه
يجرجره الآذي للعبر والعبر
مطعمة حيتانه مايهمها
مآكل زاد من غريق ومن كسر
وفي هذه القصيدة استخدم مسلم المصطلحات البحرية استحداماً دل على معرفته التامة بها وعبر عنها تعبيراً دقيقاً وتجد هذا الوصف الدقيق ايضاً عند كثير من الشعراء كالاخطل والمريمي وابي سعيد الرستمي وابي نؤاس والحسين بن الضحاك وعلي بن جبلة وعبد الصمد بن المعذل وابي الشيص الخزاعي واحمد بن ابي طاهر ومحمد بن ابي عيينة وغيرهم وهناك فن آخر من فنون البحر ورد في الشعر العربي وهو الغوص واستخراج اللؤلؤ ولعل في مقدمة هذا الفن تطالعنا قصيدة الاعشى التي يعدد فيها أدوات الغوص كالسفن الطويلة التي كان الغواصون يستخدمونها في ارجاء البحر بحثا عن اللؤلؤ كما يذكر المراسي الثقيلة التي كانوا يرمونها في البحر فتهوي فيه حتى تستقر في القاع وتمنع سفنهم من السير وكذلك الحبال التي كانوا يستعينون بها للحفاظ على انفسهم من الضياع في قاع البحر فان الغواص يغوص بحبل معه طرفه وطرفه الآخر مع صاحبه على ظهر السفينة كما ذكر الاعشى الزيت الذي كان الغواصون يسكبونه في قاع البحر لينير لهم فيمكنهم من رؤية اللؤلؤ وكانوا يمسكون الزيت في افواههم ويصبونه منها يقول الاعشى واصفاً الغواص ومايعانيه في سبيل الحصول على اللؤلؤ:
ألقي مراسيه بتهلكة
ثبتت مراسيها فما تجري
فانصب أسقف رأسه لبد
نزعت رباعيتاه للصبر
اشفى يمج الزيت ملتمس
ظمآن ملتهب من الفقر
فاصاب منيته فجاء بها
صدفية كمضيئة الحجر
وفي هذه القصيدة يسجل الاعشى صورة تاريخية للغوص عند العرب قديماً وقد ضمنها دلالات اجتماعية وحضارية ذات قيمة تاريحية وللاعشى قصيدة لاتقل اهمية عن هذه القصيدة تتحدث عن مخاطر الغواص في قعر بحر عميق متراكب الامواج في سبيل الحصول على اللؤلؤ يقول فيها:
لا النفس تونسه منها فيتركها
وقد راى الرعب رأي العين فاحترقا
في حوم لجة آذي له حرب
من رامها فارقته النفس فاعتلقا
ويصف النابغة الذبياني فرحة الغواص وبهجته عندما يرى اللؤلؤة وهي تشع في يديه فيقول:
او درة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
ويقول قيس ين الخطيم الاوسي:
كأنها درة احاط بها الغواص يجلو عن وجهها الصدفا
ونجد هذا الوصف ايضاً عند امرئ القيس بن الكندي والمخبل السعدي وابي ذؤيب الهذلي في ابيات مفردة متناثرة لكنها يمكن ان تكون صورة تاريخية مهمة عن فن استخراج اللؤلؤ عند العرب القدماء وكذلك وثيقة مهمة ذات قيمة تاريخية عن صلتهم بالبحر.
|
|