ديك الجن الحمصي.. والحقيقة الضائعة
|
*حيدر ناصر
قبل أن نصحب هذا الشاعر في رحلة حياته والكشف عن جوانبها وما رافقها من أحداث ودراسة خصائص أدبه وتوجهاته وما تركه أدبه من تأثير في محيط مجتمعه، يقتضي الانصاف ان نستجوب التاريخ والمؤرخين عن سبب التعتيم والتهميش الذي كان نصيبه في حياته وبعد مماته، أليس من العجيب ان شاعراً مجيداً على مذهب ابي تمام والشاميين (1) و من المعدودين في اجادة الرثاء وهو اشهر فيه من ابي تمام وله فيه طريق انفرد بها (2) ثم لاتجد من المؤرخين من أولاه اهتمامه وعني بدراسة حياته وبيئته وآثاره وما تميّز به شعره من خصائص؟
ثم أليس من العجيب ان عصراً ضجّ بالمؤرخين والمؤلفين واللغويين والنحويين والشعراء والادباء وراجت فيه صناعة الورق وأخذ الناس يتنافسون في اقتناء الكتب واتخاذ المكتبات وتغلغلت الثقافة في جمع الاوساط حتى أوساط العامة، لكن لم ينل شاعر يعدّ في طليعة شعراء ذلك العصر ما هو أهل له من العناية والاهتمام فتجد العبارة تبعث على الحزن والدهشة معاً يرددّها كل من يتعرض لذكر هذا الشاعر أو يترجم له وهي: (ان كثيراً من شعره قد ضاع) أو (ضاع اغلب شعره) وغيرها من شبيهاتها. إن من المؤسف أن تجد شعراء كانوا دونه في جميع الخصائص الفنية قد نالوا اكثر مما يستحقون من الاهتمام والدراسات والبحوث وربما سيستشف القارئ الاجابة الواضحة في سبب ذلك فقد كان للبلاط العباسي ومجالس لهو الخليفة و (فتوحاته العظيمة) دور كبير في شهرة الشعراء فهذه هي سوقهم التي يبيعون فيها شعرهم وضمائرهم، كما كان للنزعة المذهبية والصراع الفكري والايديولوجي اكبر الاثر في إسدال ستار الاهمال والاشاحة عن هذا الشاعر الكبير. فهذا الشاعر الذي قصده دعبل الخزاعي مع ما له من مكانة كبيرة في الشعر الى بلده ونعته بـ (أشعر الجن والانس) (3) وقصده ايضاً أبو نؤاس ليقول له: (فتنت أهل العراق بشعرك) (4).
لم يمدح أحداً من الخلفاء أو الولاة أو القادة او حتى من له أدنى صلة بالبلاط العباسي ولم يبع شعره على تجار النخاسة من السلاطين والامراء ولم يتزلف بشعره لاحد على غير عادة أغلب شعراء ذلك العصر، الذين يأتون من اقاصي البلاد فتمتلئ بهم مجالس الخلفاء والولاة وهم يتسابقون لإكتساب الجوائز والهبات. بل كان شاعرنا متعففّاً عن قصد الملوك متفرداً عن شعراء عصره حتى إنه لم يفارق الشام مع ان خلفاء بني العباس في عصره ببغداد فلا رحل الى العراق ولا الى غيره متجعاً بشعره وكان يتشيّع تشيّعاً حسنا(5).
ويمكننا ان نعزو السبب في ضياع شعر ديك الجن الى كونه شديد التشيّع(6)، وهذا وحده كان كافياً لاتهامه بالشعوبية رغم انه عربي اصيل من قبيلة عربية عريقة ولد في اعرق البلاد العربية كما كان هذا كافيا لـ(ضياع شعره) ونلمس ذلك من قصة جمع شعره فبعد (1110) سنوات على وفاة ديك الجن أي في عام (1960) كان هناك من التفت الى شعره المتناثر في بطون الكتب فعني بجمعه الاستاذ عبد المعين الملوحي ومحيي الدين الدرويش الحمصيان فاجتمع عندهما(109) نماذج بين قصيدة وقطعة في (417) بيتاً تم جمعها في ديوان سمّي بـ(ديوان ديك الجن الحمصي) وطبع في مئة وثلاثين صفحة. ولكن هذا الديوان خلا من أي بيت في حق أهل البيت عليهم السلام من مدح ورثاء حتى كأن الشاعر قد عاش في زمن الجاهلية ولم يدرك الاسلام ولم يعرف أهل البيت عليهم السلام، ولكن كان هناك من يحمل هذه الامانة على أتم وجه ويبرز الحقائق ناصعة بعيداً عن التعصّب والتزييف اذ قام الدكتور احمد مطلوب والاستاذ عبد الله الجبوري بجمع كل ما وجداه من شعر ديك الجن ومن ضمنه قصائد الشاعر في حق أهل البيت عليهم السلام والتي لم يستطع الملوحي والدرويش ان يتحملاها وقد اعتمد مطلوب والجبوري على نسخة من ديوان ديك الجن جمعها بعناية وأمانة أدبية الشيخ محمد السماوي صاحب كتاب إبصار العين بنفسه وكتبها بخط يده وقد ارسلها اليهما الشيخ محمد علي اليعقوبي بعد أن اشتراها وكان الشيخ السماوي قد جعل هذه النسخة في فصلين: الاول ما قاله ديك الجن في أهل البيت عليهم السلام ويضم ثماني قصائد في (156) بيتاً والثاني ما قاله في فنون مختلفة ويضم (39) قصيدة في (278) بيتاً.
كان شاعرنا متميزاً باسلوبه الشعري المتين البناء السبك مع رقة المعاني ودقة النسج وصدق الصورة والجزالة في الالفاظ وقد تعددت الاغراض في شعره فخاض كل فنونه وابدع فيها وتجلّى الابداع في تصوير الخصوبة في صبغته اما لقبه فقد تعددت الروايات بشأنه فقيل : سمي بـ (ديك الجن) لأن عينيه كانتا خضراوين (7) وقيل غير ذلك في روايات كثيرة. اما اشهر هذه الروايات في تلقيبه بـ( ديك الجن) لقصيدة قالها في رثاء ديك كان لاحد اصدقائه قد ذبحه وأقام منه مائدة دعا اليها شاعرنا واسم الشاعر ديك الجن هو ابو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم الكلبي(8)، وكانت ولادته في حمص سنة 161هـ ولم يبرح مدينته حتى توفي فيها ولم يذكر التاريخ عن نشأته وحياته وبيئته شيئاً سوى أحداث وقصص حدثت للشاعر في حياته آثرنا حتى أغرقوا في احداثها حد الاسطورة والخيال، أما شعره فقد طفح عليه العبق الولائي لأهل البيت عليهم السلام ومنه الابيات المشهورة والتي لازال يتردد صداها الى الآن في رثاء سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمدٍ
مترمّلاً بدمائه ترميلا
وكأنما بك يا بن بنت محمدٍ
قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا
في قتلك التنزيل والتأويلا
و يكبّرون بأن قُتلت وانما
قتلوا بك التكبير والتهليلا
وله في هذا الشأن قصائد مفجعة تقطر ألماً وحزناً تفصح عما انطوى عليه قلبه من أنين وعينه من دموع ونفسه من أسى وحسرة كما في هذه القصيدة:
يا عين لا للغضا ولا للكتبِ
بكا الرزايا سوى بكا الادبِ
جودي وجدي بملء جفنك ثمّ احتفلي بالدموع وانسكبي
ياعين في كربلا مقابر قد
تركن قلبي مقابر الكربِ
مقابرٌ تحتها منابر من
علم وحلم ومنظر عجبِ
وفي قصيدة أخرى يصور الامام الحسين عليه السلام منفرداً وهو يواجه جيوش بني أمية فيقول:
ماء من العبرات حرى أرضهُ
لو كان من مطر لكان هزيما
وبلابلٌ لو انهن مآكلٌ
لم تخطئ الغسلين والزقوما
وكُرىً يروّعني سرى لو انه
ظلٌ لكان الحر واليحموما
مرت بقلبي ذكريات بني الهدى
فنسيت منها الروح والتهويما
ونظرت سبط محمد في كربلا
فرداً يعاني حزنه المكظوما
وتبقى واقعة الطف عالقة في ذهن شاعرنا ولاتفارق صورها المأساوية وجدانه فتلتهب لها قريحته ويذوب لها فؤاده فيصب ما اعتمل في صدره في شعره يقول من قصيدة:
اين الحسين وقتلى من بني حسنٍ
وجعفر وعقيل غالهم غمرُ
قتلى يحنّ اليها البيت والحجرُ
شوقاً وتبكيهم الآيات والسورُ
لما رأوا طرقات الصبر معرضةً
الى لقاءٍ و لقيا رحمةٍ صبروا
أما علي بن ابي طالب فهو ينبوع الفضائل والمآثر والمعاجز والبطولات وهو الحق الابلج والعلم الواضح وهو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله من والى غيره فهو يتخبط في عشواء مظلمة... هذا ماقاله الشاعر:
أنسى علياً وتفنيد العواة له
في غدٍ يعرف الأفّاك الأشرُ
من ذا الذي كلمته البيد والشجرُ
وسلّم التربُ اذ ناداه والحجرُ
أم من حوى قصبات السبق دونهمُ
يوم القليب وفي اعناقهم زَوَرُ
أليس قام رسول الله يخطبهم
وقال: مولاكم ذا أيها البشرُ
هذه هي عقيدة الشاعر التي كانت شجى في افواه الكثير فلم يتعرضوا لشعره ولم يتحملوه وكيف...؟ وماذا يقولون في هذا الشعر الذي بدت فيه الحقيقة واضحة ناصعة جلية؟ ولكن نفوسهم أبت إلا العناد:
ومن كعلي اذا ما دعوا
نزال وقد قلّ من ينزلُ
تراه يقدّ جسوم الرجال
فيندحر الاول ُالاولُ
وكم ضربةٍ واصلت كفه
لفيصله فاحتوى الفيصلُ
سطا يوم بدر بقرضابه
وفي اُحد لم يزل يحملُ
من باسه فتحت خيبر
ولم ينجها بابها المقفلُ
وما أربعين ذراعاً بها
هزبرٌ له دانت الاشبل ُ
والشاعر عندما يفتخر بقبيلته، فهو يفتخر بما قدمت من تضحيات في سبيل اعلاء كلمة الاسلام ومناصرة الحق في معارك أُحد و مؤتة وصفين وكربلاء:
غداة مؤتة والشراك مكتهلٌ
والدين أمرد لم يفع فيحتلم
وعيّرتنا وما ان طُلّ في أحدِ
وطلّ في مؤتةٍ والدين لم يرمِ
ويوم صفين من بعد الخريبة كم
دم أطل لنصر الدين إثر دمِ
وفي الفرات فداء السبط قد تركت
اشلاؤنا في الوغى لحماً على وصمِ
فقبيلته حمت الاسلام بدماء رجالها في ميادين الحروب مع النبي صلى الله عليه وآله والوصي عليه السلام:
ان تعبسي لدم منا هريق بها
فقد حقنا دم الاسلام فابتسمي
توفي شاعرنا ديك الجن الحمصي سنة 235هـ ـ 850م عن (74) عاماً وكما كان يفرض وجوده وشاعريته بهدوء ومقدرة بعيداً عن مزاحمة الشعراء ومنافستهم في تكسبهم وجرى في غير حلبتهم وغير ميدانهم فلم يعنهم أمره فقد رحل دون ان يكون لرحيله تأثير على منهجهم فلم يعنهم رحيله ايضاً وكما لم يمدحه أو يهجيه احد منهم فلم يرثه ايضاً اي احد منهم وربما كان هذا الموضوع أول مرثية له.
*الهوامش
1. الاغاني/ ابو الفرج الاصفهاني ج14ص51
2. العمدة في الشعر والشعراء/ ابن رشيق القيرواني
3. العمدة/ ابن رشيق
4. وفيات الاعيان/ ابن خلكان
5. وفيات الاعيان/ابن خلكان
6. الاغاني/ ابو الفرج ج14ص51
7. الاعلام/ الزركلي ج4
8. تاج العروس/ الزبيدي ج7
|
|