نهضة الحسين عليه السلام..
شرارة لثورات ثقافية ضد الكبت والإنحراف
|
*أنور عزّ الدين
قال الإمام الحسين بن علي عليهما السلام: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أُبيّ بن كعب، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: مرحباً بك يا أباعبدالله... يا زين السماوات والأرضين، فقال له اُبيّ: وكيف يكون يا رسول الله زين السماوات والأرضين أحد غيرك؟ فقال: يا اُبيّ والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ الحسين بن عليّ في السماء أكبر منه في الأرض، فإنّه لمكتوب عن يمين عرش الله: (الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة)، وإمام خير ويمن وعزّ وفخر، وبحر علم وذخر، وإنّ الله عزّوجلّ ركّب في صلبه نطفة طيّبة مباركة زكيّة. (بحارالأنوار، ج36،ص 204، الحديث 8)
هذا الحديث المدوي ذو الدلالات العميقة، ليس من السهل المرور عنده كراماً، فهو يصدر من شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وبحضور الامام الحسين عليه السلام وهو آنئذ طفل صغير، فالقضية إذن، رسالية وحضارية غاية في الاهمية يمكن ان تكون إجابة وافية وشافية لمن يسأل عن العلاقة بين الامام الحسين وبين جده المصطفى صلى الله عليه وآله، ولماذا كل هذا التعظيم للامام ولقضيته وحادثة استشهاده والربط الوثيق بينها وبين الاسلام برمته، وقد سبقه جده بالتبليغ الى دين الاسلام ونشره الى العالم؟
لنراجع حديث الامام الحسين عليه السلام في كلمته الطويلة التي اعلن خلالها اهداف مسيرته نحو كربلاء حيث قال: (... ألا واني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولامفسداً ، إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أأمر بالمعروف وانهى عن المنكر)، فكيف يتم هذا الاصلاح ياترى وما هي وسائله؟
نورٌ يمزّق حجب الضلال
إن البشرية استضاءت بنور الاسلام بعد حوالي ستين عاماً من الهجرة النبوية، أي خلال جيلين كاملين، فقد تم استنساخ القرآن الكريم وتم تداول كتابة الاحاديث النبوية ولو ليس بالشكل المطلوب، واتسعت رقعة الدولة الاسلامية على المعمورة، لكن المسلمين الذين كان تعداد نفوسهم يُعد بالملايين، توقفوا عند التعاليم والاحكام الاسلامية المذكورة في القرآن الكريم، ولم يدعوا هذا التعاليم والمفاهيم الدينية تدخل عالم السلوك والثقافة الاجتماعية، بينما الرسول الاكرم لم يرحل عن الحياة الدنيا، الا بعد ان ترك فيهم الثقلين، وهو حديث متواتر ومشهور، فالى جانب ثقل الكتاب، هنالك العترة وأهل بيت النبي، وهم القرآن الناطق، وبما ان الانسان وكل زمان ومكان تأخذه نوبات (العزّة بالاثم) فانه يحاول بكل الوسائل التنصّل عن اطاعة القيادة الربانية بعد الرسول الأكرم، ولذا كان جواب أعيان وشيوخ أهل الكوفة للامام الحسين عليه السلام (حسبنا كتاب الله). وعليه فان (مصباح هدى) هو لزمان رآه النبي الأكرم أمامه سلفاً، حيث يخيم الجمود الفكري والتخلف الثقافي وسيطرة الحكام الظالمين على مقدرات المسلمين.
لقد كانت واقعة الطف واستشهاد الامام الحسين واصحابه واهل بيته عليهم السلام، بداية المواجهة المحتدمة والمكشوفة مع ثقافة التبرير والتسطيح واللامسؤولية التي تفشّت في اوساط المجتمع الاسلامي. وقد توزع المجتمع بهذه الثقافة البعيدة عن روح الاسلام الى ثلاثة أصناف:
1- عامة الناس، الذين يتذرعون بعدم معرفة السبيل لمواجهة الحكام الظالمين، ويقولون إنما نحن بؤساء ومحرومون، ما علينا إلا أن نتبع ساداتنا وكبارنا ومن بيده عوامل القوة.
2- الأثرياء الذين يخافون الفقر ويخشون المساواة مع المحرومين لئلا يخسروا ثروتهم وامتيازاتهم.
3- إنصاف المثقفين وأدعياء الدين الذين يسكتون على الباطل ويداهنون الظالمين ويرضون بفتات من مائدة السلطان، وكما يصفهم القرآن: "فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً" (البقرة /79)، وفي آية أخرى: "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ" (المائدة /13).
وهؤلاء هم أخطر الفئات على المجتمع، لأنهم يسرقون سلاح العلم والدين من أيدي المحرومين، ويضعونه بأيدي المستكبرين والطغاة لقاء دراهم معدودة. وليس لا يقاومون الظلم والانحراف فقط، إنما يحذرون الناس ويشيعون بينهم أفكاراً سلبية وانهزامية، وما الأمثلة الجاهلية الشائعة حتى اليوم بين الطبقات المحرومة إلا من بقايا ثقافة وعاظ السلاطين من تجار الكلمة والقلم. إنهم أشاعوا بين الناس بأن السلطان ظل الله، وأن من تسلط على الرقاب بالسيف فهو أحق الناس بالطاعة، وأن (حشر مع الناس عيد)، حتى وإن كان إلى سعير جهنم! وأن (معنى التقاة السكوت عن الطغاة)، وأن (اليد التي لا تقدر على قطعها استسلم لها وقبلها)، وغيرها الكثير من الشعارات والافكار التبريرية التي أدت الى تخلف الأمة وتقهقر المسلمين أمام الأمم الأخرى، وما نعيشه اليوم هو بالحقيقة نتاج لتلك البذرة التي زرعها هؤلاء وأمثالهم.
وهنا تحديداً نفهم مغزى الحديث النبوي الشريف في حق سبطه الشهيد، فهو بثورته الاصلاحية المدوية، يشق حجب الضلال والظلام بنوره الساطع، ليهتدي الناس سواء السبيل، ولا يقل أحد بعدئذ، كيف أواجه الظلم والانحراف سواءأكان من السلطة الحاكمة أم من أدعياء الثقافة والفكر.
هل لنا من نجاة؟
إن أعظم محاور الرسالات وأعظم أهداف الرسل وخلفائهم، كان تبديد زيف التأويل الباطل عن الدين، ونفي الأعذار التي كانت السبب في تخلف الناس عن الدين. وقد خاض أنبياء الله وأولياؤه المؤمنون صراعاً مريراً من أجل تكريس مفهوم المسؤولية عند الانسان، وانه سيقف يوم القيامة وعليه أن يجيب عما اتلفه وانفقه وقاله وعمله في حياته، فهو موهوب بالعقل والارادة ومحظوظ بخدمة سائر الكائنات والطبيعة، كل هذا، حاولت الثقافات التبريرية حجبه او تشويهه لئلا يصل الناس بعقولهم الى هذه الحقيقة، الامر الذي يؤدي بالتأكيد الى خسارة عظيمة تلحق بالسلطان والحاكم ومن حوله من المتزلفين أنصاف المثقفين.
لذا كانت نهضة أبي عبد الله الحسين عليه السلام علماً بارزاً في هذا الطريق الشائك، حيث كانت رسالة جده المصطفى عليه وعلى آله صلوات الله أعظم انتفاضة للضمير وتوهج للعقل، وكما جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم مخاطباً أمير المؤمنين صلوات الله عليهما: "يا علي تقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل". بمعنى انه صلى الله عليه وآله، رحل عن دار الدنيا وقد أرشد الأمة الى (سفينة النجاة) التي من ركبها نجا ومن تخلّف عنها مرق وهلك، فالذين كانوا في الكوفة والشام وسائر الامصار الاسلامية سنة 61 للهجرة، هم مسلمون بينهم شيوخ وقراء للقرآن الكريم وأئمة جماعة، لكن الذي وقف الى جانب الامام الحسين يوم عاشوراء كانوا لا يتجاوزون الثلاثة والسبعين شخصاً فقط، فاين حديث النبي الأكرم الذي صدرنا به المقال من ذلك اليوم العظيم؟
في حديث له لأحد اصحابه يعقب الامام الصادق عليه السلام على الحديث النبوي المشار اليه، باننا (كلنا سفن نجاة لكن سفينة الحسين أوسع و أسرع)، لكن كيف ذلك...؟
إن الامام الحسين ومنذ اول لقاء له مع أهل الكوفة على ارض كربلاء وهم حاملين السلاح بوجهه، كان يرجو ان يكونوا معه في (سفينة النجاة)، ولا يكونوا على خشبة السلطان والطاغية الظالم الذي يزوق لهم الحياة بالمال والبيوت الفارهة والامتيازات والمناصب، وكان أول الخاسرين في هذا الطريق هو عمر بن سعد قائد جيش الكوفة، الذي لم يستثنيه الامام من النصيحة والابلاغ وإلقاء الحجة كاملة عليه. لكن المشكلة أن (لا حياة لمن تنادي).
وما تزال هتافات وشعارات الامام الحسين عليه السلام حيّة نابضة في الضمير والوجدان، وهي تدعونا جميعاً للحاق بـ(سفينة النجاة) التي هي بالحقيقة طريق النجاة من مختلف الازمات والمشاكل التي نعيشها اليوم وعلى مختلف الصُعد، ولعل أقرب مثال لنا في ذلك مفهوم (الحرية) الذي رفع لواءه عليه السلام في مقابل العبودية التي كانت سياسة الدولة الأموية وكل دولة تقيم اركانها على التخلف والتسطيح والتضليل، وقالها غير مرة في خطاباته صبيحة يوم العاشر من محرم، منها (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد)، وخطابه لجيش العدو أن (يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تؤمنون بالمعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وكونوا عرباً كما تزعمون).
|
|