قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

علو الهمّة وطريق الفلاح
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *طاهر القزويني
العاقل هو من يسلك سبيل الحكمة، وهو سبيل واحد بين كثرة السبل، والرجل لايملك إلا همةً واحدة في اتجاه واحد؛ فإما يسلك طريق الحكمة أو سبيلاً آخر، فإذا سار في طريق آخر، فانه همته ستأخذ طابع ذلك الطريق والاتجاه، وأقبل على الله وهو خالي اليدين من الأعمال الصالحة، لأنه جعل همته هي الدنيا وملذاته فيها، ونسى آخرته التي هي محشره وحياته الأبدية.
فما دمت في الحياة فلك أن تختار الطريق الذي يجب أن تبذل فيه همتك، فإذا إنقطع أجلك فقد ذهبت همتك وعمرك إلى الفناء، والآن لابد أن تدرس بعقل متفتح وقلب بصير، أ تجعل همتك من أجل الدنيا أم تجعلها في خدمة الآخرة؟
هناك مفارقات مهمة بين ما تعمله من أجل الدنيا وبين ما تعمله من أجل الآخرة:
1- نتيجة عملك للدنيا غير مضمونة، فأنت تدخر بعض الأموال وتستجمع طاقتك وهمتك من أجل القيام بعملية تجارية، وقد تربح في هذه التجارة أو تخسر، فليس هناك ما يضمن قبول أو نجاح هذه العملية، بينما العمل من أجل الآخرة مضمون النتائج، وهو بلاشك عمل ناجح ويحقق الربح لعامله.
2- نتائج عمل الدنيا حتى وإن كانت مربحة فإنها محدودة، بحجم العملية التجارية التي يقوم بها الفرد بينما نتائج العمل من أجل الآخرة غير محدودة، لأن الربح فيها عظيم إلى درجة أن يكون الربح هو عشرة أمثال الأموال المستخدمة في العملية التجارية، فأنك تعطي من أجل الآخرة درهماً واحداً فتأخذ مقابله عشرة دراهم، وأية عملية تجارية في الدنيا لايمكن أن تدر على المرء بمثل هذا الربح الكبير.
3- الربح الذي يحصل عليه المرء في الدنيا نتيجة عمل تجاري هو ربح زائل بمعنى أنه قد يخسر الرجل في تجارة أخرى أو في شراء سلع استهلاكية وغير ذلك من المصروفات اليومية، بينما ربح الآخرة باقٍ ولايزول ولايندثر ولايخسره المرء في تجارة وغير ذلك.
4- العمل من أجل الآخرة يحقق للمرء مكاسب جمة في الدنيا قبل الآخرة، وهي مكاسب كبيرة، مثل الصحة وطول العمر والموفقية، وغير ذلك كثير من الأمور التي يجب أن يبذل من أجل تحقيقها الآخرون الأموال الكثيرة، أما أنت تستطيع تحقيقها من دون أن تنفق فلساً واحداً، وذلك من خلال صلة الرحم أو صلاة مستحبة، أو دعاء مستجاب وهكذا.
5- العمل من أجل الآخرة يحقق الرضا عن النفس، ويشعر معها المرء بالطمأنينة وراحة البال، بينما العمل من أجل الدنيا يجلب الكثير من الأمراض النفسية والبدنية، فإنه يجلب الطمع والحسد والبخل وغير ذلك كثير، ونتيجة القلق على أمواله وتجارته فهو يصاب بالأمراض القلبية كالقرحة وغير ذلك.
نحن هنا لانريد أن نضع العمل من أجل الدنيا في مواجهة العمل من أجل الآخرة، فليس هناك تعارض بين طلب الدنيا وطلب الآخرة لكن هناك فرقاً بين من يطلب الدنيا من أجل الدنيا، وبين من يطلب الدنيا في سبيل تحقيق رضا الله، فهو يذهب إلى العمل صباحاً من أجل توفير لقمة العيش لعياله وهذا هو ما أمر به الله عزوجل، وهو يقوم بالاعمال التجارية لأن أئمة الهدى صلوات الله عليهم هم الذين أوصوا بالتجارة وفيها تسعة أعشار الرزق.
فليس هناك تعارض بين العمل من أجل الدنيا والعمل من أجل الآخرة، لكن المشكلة هي أن همة الإنسان محدودة بالزمان والمكان والقدرة، فالإنسان في هذه الدنيا زمانه محدود وقدراته محدودة فلا يستطيع أن يسير في طريقين في وقت واحد.
وقد دلّتنا الأحاديث الشريفة أن الذي يتجه إلى طريق الإيمان والعمل الصالح والآخرة فأن الله عزوجل هو الذي يوجهه ويوفقه في أعمال الدنيا وهناك أحاديث كثيرة وردت في هذا المضمار.
لكن الناس يختلفون في تصنيفاتهم تجاه هذه القضية فمنهم من يطلب بهمته الأدنى ومنهم من يطلب الأعلى وهناك قصة تكشف حقيقة هذين الصنفين وسنحاول أن نوجز هذه القصة بسبب طولها.
وهي: أن رجلاً في الطائف استضاف الرسول(ص) قبل الاسلام، فلما بُعث النبي أخبروه أن من استضفته أصبح نبياً فذهب إليه ليأخذ منه الجائزة فماذا كان طلبه؟ كانت مئتا شاة طلبها من النبي الأعظم فاستقلّ النبي الأكرم طلبه وقال لأصحابه: أما ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بني اسرائيل لموسى؟
فسألوه عن حكاية عجوز بني اسرائيل فإجابهم رسول الله(ص): بأن الله عزوجل أوحى إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة ولم يكن يعرف محل قبر يوسف فسأل عن ذلك فأخبروه أن عجوزاً من بني اسرائيل تعرف ذلك، فوصل إلى المرأة العجوز وسألها أن تدليه على القبر فقالت: لا أدلّك عليه إلا بحكمي قال: فلك الجنة قالت: لا إلا بحكمي عليك فأوحى الله عزوجل إلى موسى، لايكبر عليك أن تجعل لها حكمها فقال لها موسى فلك حكمك قالت: فإن حكمي أن أكون معك في درجتك التي تكون فيها في الجنة .
لقد كانت رغبة تلك المرأة العجوز عالية وفكرتها سامية لذا هي وصلت إلى تلك الدرجة من السمو والرفعة التي كانت تفكر وترغب بها، بينما ذلك الرجل الذي إستضاف الرسول(ص) أيام الجاهلية كانت رغبته محدودة وتفكيره محدوداً وضيقاً إلى مستوى مئتي شاة التي حصل عليها.
لذا يستحسن قبل العمل أن نشغل فكرنا وقلبنا وهمتنا في الشيء الذي نريده، وقد يعطينا الله سبحانه تلك الدرجة التي كنا نطمح إليها.