الإنسان بين الأغلال وحركة التكامل
|
*كريم الموسوي
كان الإنسان ناهضاً بطبعه، حيث خلقه الله تبارك وتعالى في أحسن تقويم، فأودع فيه قيماً هائلةً وساميةً تدفعه إلى الحركة والتكامل ولولا ذلك، لتجمد الإنسان على ما كان عليه.
غير إن هناك أغلالاً وأُصُراً وعقبات تحيط بالإنسان وتقف دون سموّه وتحركه وتكامله. ولعل من أبرز هذه الأغلال هي وساوس الشيطان الرجيم التي قد تتخذ أشكالاً مختلفة، منها الثقافية في الغالب، ومنها الاقتصادية، ومنها السياسية. وليس أمام ابن آدم إلاّ أن يحطم هذه الأغلال وفق ما ألقاه ويلقيه اليه الله سبحانه عليه من هدىً وتوفيق.
ومن جملة هذا الهدى والتوفيق أن بعث إليه رسولاً نبيّاً ليضع عنه إصره والأغلال التي كانت عليه.. وكان من الصعب جداً أن يحقق الإنسان طموحاته من دون هذا الهدى، فالأغلال تمنع من تحقيق مسؤوليته، وعندها سينعكس على من يرزح تحتها، القدر المناسب في إحاطة البلاء.
وثمة التفاتة؛ إن الإنسان من طبعه التهرب من خوض الصراع، ولكنّه قد يجهل أو يغفل عن أن صراعه الحقيقي والمصيري هو الصراع الذي يجب أن يخوضه مع الشيطان، لأنه عدوه الأشرس والأعتى، وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نتخذه عدواً ولا نغفل عن وساوسه ومؤامراته ضدنا.
فمن دون خوض هذا الصراع المصيري مع الشيطان الذي يجري في الإنسان مجرى الدم في العروق، من دون ذلك سيكون من الصعب؛ بل ومن المستحيل عليه أن يفك أغلاله. علماً أن الإنسان ما أن يتمكن من فك غلٍ واحدٍ من الأغلال إلاّ وقيده الشيطان بغلٍ آخر، قد يكون أشد وطأة عليه. فوساوسه تلقى على ابن آدم لحظة بعد أخرى وآناً بعد آن. ومن هذه الزاوية كان عليه أن يخلق في ذاته الهمة والعزم الشديدين على مقاومة الشيطان وخوض الصراع ضده.
إن من وساوس إبليس وجنوده أنهم يسوفون للإنسان ما ينبغي عليه أن ينجزه من أعمال الخير، كالتوبة مثلاً.. وقد قال إمامنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) في كلمة رائعة: (ألا إن أخوف ما أتخوّف عليكم اثنان: طول الأمل وإتباع الهوى).
فطول الأمل من شأنه أن ينسي الآخرة، وإتباع الهوى يعني الخوض في الشهوات الباطلة.
أما الله سبحانه وتعالى فقد بيّن لنا جملة من الوساوس الشيطانية في قوله: "يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ" (الحديد / 13 - 14) وقد قصت هذه الآيات وما قبلها حديثاً كان محوره أن الإنسان لا نور له في يوم القيامة سوى نورٍ حمله معه من الدنيا، ولأن المؤمنين والمؤمنات قد حملوا النور معهم بأعمالهم الصالحة، فإن نورهم سيسعى بين أيديهم ليدلهم وينقذهم من أهوال يوم القيامة.. ?يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? (الحديد / 12). وهذا النور سيفتح له الطريق، بالإضافة إلى أن الملائكة ستبشرهم وهم في طريقهم إلى الجنة..
أما المنافقون؛ فلا نور لهم قطعاً، فتراهم يقولون للمؤمنين "اُنظُرونا نَقْتَبِس مِنْ نُوركُم"، وهنا يقول قائل: "ارْجَعُوا وَراءَكُم فَالتَمِسُوا نُوراً". وهذا اقتراح تعجيزي، لأنهم لا خيرة لهم في الرجوع إلى الدنيا والتزود بالأعمال الصالحة. في هذه اللحظة يرتفع سور يحجر المؤمنين عن المنافقين، فينادي أهلُ الحسرة أهلَ النعيم: "أَلَم نَكُنْ مَعَكُم" فبمَ تقدمتم علينا؟ ولماذا حصلتم على النور ولم نحصل عليه؟ فيأتي الجواب القارع: "بَلى وَلكِنَّكُم فَتَنْتُم أَنفُسَكُم وَتَرَبَّصْتُم وَارتَبْتُم وَغَرَّتْكُم الأَماني حَتَّى جَاءَ أَمر الله وَغَرَّكُم بِالله الغَرُور".
إذن؛ فمشكلة المنافقين بالدرجة الأُولى أنهم فتنوا أنفسهم وخدعوها من أجل الحصول على شهوة من الشهوات وبعضاً من الراحة في الدنيا، فكانوا يزينون لأنفسهم تأخير أداء الواجبات من عبادة وحقوق وجهاد وأمر بمعروف ونهيٍ عن منكر.
ثم كانت المشكلة الثانية أنهم تربصوا ولم يبادروا إلى عمل الخير، ولم يكونوا ليعرفوا معنىً للتوكل على الله سبحانه وتعالى، كما غفلوا عن قوله الكريم: "وَسَارِعُوا إِلى مَغفرة مِن رَبّكُم" (آل عمران / 133)، أو قوله سبحانه: "فَاسْتَبِقُوا الخَيرات" (البقرة / 148).
فهل تعلم كم من إنسان تمنّى أن يفعل الخيرات غداً أو بعد غدٍ، ولكنه لم يتدارك نفسه إلاّ والموت يقتحم عليه داره، فيفصل بينه وبين أمانيه، قال أميرالمؤمنين (عليه السّلام): (من عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله، ولم يضره أجله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله وضرّه أجله).
ثم إن الإنسان إذا فتن نفسه وتربّص لها الأيام، بدأ بالغرق في الحضيض الشيطاني، فتراه آنذاك يبخل عن بذل بعض ماله أو التضحية بشيء من وقته في سبيل الخير، فهو يشكك بقدرته على تمييز الحق من الباطل والحلال من الحرام، وينتهي به المطاف إلى أن يبحث لنفسه عن عقيدة لا مسؤولية فيها ولا التزامات. فتراه يبدأ بأن يمني نفسه بالحظوة بالجنة أو فعل الخير، معتقداً بأن مجرد هذه القشرية ستكفيه في الحصول على ما يتمنى. ولكنه يفاجأ بأمر الله بعد أن غرّه الغرور واستحوذ عليه الشيطان وقاده إلى سوء الجحيم.
إن البعض من تلكم الأماني نلاحظها تتجسد في بعض الأحيان لدى أشخاص يتمنون لو أن الملائكة تحول بينه وبين العذاب، أو أن النبي عيسى (عليه السّلام) سيفديه رغم ما يرتكب من مآثم، أو أنه يعتقد بحجر وصنم وكوكباً وطاغوتاً، فيزعم بشفاعة بعض هذه النماذج، إلاّ أنهم سيفاجؤون المفاجأة الكبرى حيث يخاطبهم ربهم العزيز المقتدر بالقول: ".. مَأواكُمُ النَّار هِيَ مَولاكُم وَبِئْسَ المَصِير" (الحديد / 15).
|
|