الانسان والثورة الفكرية على أخطاء الفلاسفة
|
*أنور عزالدين
معرفة الانسان بداية سلسلة من المعارف الحضارية، فمعرفة نزعات الانسان وطاقاته الفكرية تشكل موضوع علم النفس، وإذا لاحظنا كل ذلك مرتبطاً بمدى نشاطاته من اجل اشباعها، كان موضوع علم الاقتصاد، وحين نتحدث عن مجموعة افراد - نزعاتهم وطاقاتهم- يكون من اختصاص علم الاجتماع، واما علم التاريخ فهو مجموع هذه العلوم حينما نبحث عن اناس مضوا.
صحيح ان كل علم من هذه العلوم يتميز بمقاييس ومواضيع لا نجدها في غيره، الا ان خطه الفلسفي العام مشترك مع سائر العلوم، حتى انك تحتار حينما تحاول فصل البعض عن الآخر لشدة التشابك بينها. لذا فان نظرة القرآن الى الإنسان نابعة من نظرته العامة حول الحياة وهي:
1- ان للإنسان جوانب إيجابية واخرى سلبية، والجوانب الإيجابية موهوبـة له من اللـه القديـر، بينما الجوانب السلبية ذاتية له لا يمكن تعليلها بشيء. وتبدو هذه الحقيقة اشد وضوحاً لو تبصرنا واقع الكون على انه حدود ووجود. وان حدوده - التي تميزه عما سواه وتدعى في منطق الفلاسفة بالماهية- نابعة من ذاته، واما وجوده فمن اللـه، الذي يستمد نور الوجود منه القيمومة والحياة. فالانسان كذلك يملك جانب التحديد، وجانب الوجود. وجانب التحديد نابع من ذاته بينما جانب الوجود قائم باللـه مستمد منه الحول والقوة.
فلكل فرد قدر من العلم والقدرة والارادة، وفيه الى جانب ذلك قدر اكبر من الجهل، والعجز والانقياد، وبامتزاج العلم والجهل والقدرة والعجز والارادة والانقياد تتكون الصفات المائزة للإنسان، فهذا يعلم النحو ويجهل الفقه، ويقدر على البناء ولا يقدر على الصياغة، ويقاوم ضغط الشهوة ولا يقاوم ضغط الغضب، وهكذا... فهذه هي حدود الإنسانية المتمايزة، وذلك وجودها المشترك.
والحدود ذاتية لانه ما من فرد إلا ولم يكن في حين من الدهر شيئاً مذكوراً ثم امتلك بعض القدرات تدريجياً، بفضل اللـه الحي القيوم.
2- الانسان يطوي مسيرة شاقة من الجوانب السلبية نحو الجوانب الإيجابية، وكل القيم الموحى بها إليه تُعد وقود لهذه المسيرة، سواء في جانبها الفردي او الاجتماعي، وقافلة الحضارة تتابع ذات المسيرة الشاقة الطويلة، حتى تنتصر في العاقبة ببلوغ النهاية الحميدة التي تتمثل في تفوق الجوانب الايجابية على الجوانب السلبية في البشرية جمعاء.
3- وهكذا يكون الاعتراف بواقع الثنائية في الإنسان، البداية الطبيعية لعلم النفس، اما علم الاخلاق فهو الأضواء المشعة التي تكشف جوانب هذه الثنائية، وتحاول وضع معالم في سبيل الفرد نحو التفوق ضد الجوانب السلبية. وعلم الاجتماع اعتراف بواقع الثنائية في الإنسانية، وكشف لخطوط السلبيات فالايجابيات فيها، ووضع مشاعل على طريق انتصار الخطوط الايجابية على السلبية، والتاريخ علم يتابع - بعد الاعتراف بكل هذه الحقائق - مسيرة الانسانية في الاحقاب المتطاولة نحو انتصار جوانب الكمال، وعبرة مستفادة من الماضي للمستقبل.
وهكذا يتحول كل علم من العلوم الإنسانية الأولية الى جانبين: جانب الكشف وجانب التوجيه. ورغم ان جانب الكشف هو قاعدة الجانب الثاني، فإن هذا الأخير ايضاً هدف الجانب الأول الذي ينشأ من تناسيه الفوضى في مسيرة (علم معرفة الإنسان).
وجانب الكشف من علم النفس في فلسفة القرآن يتبع القواعد التالية، التي ليست سوى تبسيطاً لذات الحقيقة الآنفة الذكر:
1- ليست النفس سبيكة بيضاء ولا صخرة سوداء كما زعم كل ذلك فريقان متطرفان من فلاسفة البشر، وانما هي امر بين امرين.
2- ومن هنا فان الجوانب السلبية والايجابية متعايشتان عند الإنسان لا يفرضهما عليه فارض من خارجه، اللهم الا الله واهب الخير له ويفرض عليه كلمة التقوى احياناً.
3- وخطأ فلاسفة البشر الاول آت من افتراضهم سلفاً ان النفس التي تتبع الخير لا يمكن ان تكون مصدر الشر، وكذلك العكس، جاهلين ان طبيعة النفس الشريرة لا تنافي هبة الله لها موهبة خيرة. كما كانت طبيعة الإنسان الموت فوهب الله له الحياة، وذاته العدم، فاعطاه اللـه الخلق والوجود وهكذا.
4- ومن هنا تكون المحفزات الطبيعية حقة وواقعية بذات القوة التي تكون العوامل الحضارية صحيحة وواقعية، فالعصبية الى جانب الايثار، والشهوة الى جانب التعفف، والرياء الى جانب الاخلاص امور واقعية ومعترف بها.
5- وتكون التربية والاخلاق والعقوبات والضغوط كلها ضرورية، لأنها ستساعد الجانب الايجابي في البشر على الجانب السلبي، ولكن بعد الاعتراف بواقعية الحالة الاعتدائية في النفس واثر الوراثة والهوى والكفاح المعاشي في تسييره، مما يشكل الجانب السلبي منه.
هذه هي النقاط الخمس التي تعود لتتمركز في ثورة فكرية واحدة هي قاعدة الثنائية في الكائنات وفي النفس البشرية، هذه القاعدة التي اخطأها فلاسفة البشر قديماً وحديثاً، وهدى اليها القرآن الحكيم الذي قال: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَـا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ اللـه وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا" (الشمس /7-14).
ان النفس تعرف الفجور وتعرف كيف تبقى فيها وتتخلص من سيئاتها، ولكنها تسير ناحية التزكية حيناً وناحية الدس والنفاق حيناً آخر، وأيّ الناحيتين سارت فهي نابعة من قوة متأصلة فيها، فقوم ثمود حيث اختارت الضلالة انما اختارتها بطغواها؛ حيث طغت بالنعم، والطغيان بالنعم حقيقة معترف بها لدى الاسلام وسنة اجتماعية، ولكن القرآن من جانب آخر يدين ثمود، لانها كانت تستطيع الافلات من قيود هذه السنة الاجتماعية وتستجيب لنداء رسولها فلم تفلح، فعوقبت ودمدم عليهم ربهم فسواها. والعقوبة ذاتها نابعة من التخيير في الاسلام، فلولا اعتقادنا بامكانية ثمود التمرد على سنن الكون لما حسنت العقوبة ولا حتى الادانة.
وبعيداً عن تفسير الظواهر النفسية بالثنائية (الذات + الموهبة) نتورط في الفلسفات التجزيئية التي لم تستطع ان تعطي الإنسان وجوده المتكامل، واكثرها تجرد الإنسان من حريته في اختيار السلوك الفاضل.
أ- فداروين يجعل مسألة التقدم البشري طبيعية الى درجة بعيدة، ويجعل الكفاح من اجل الوجود وسيلة الإنسان الوحيدة نحو التقدم الطبيعي، ثم يربط بين الشرور وبين مرحلة الإنسان، بحيث يكاد يقدس تلك الشرور ويعكس نظرية الخطيئة الاولى في الديانة المسيحية، ولا نذيع سراً لو قلنا ان بناء العلوم الحديثة (والمرتبطة بمعرفة الإنسان) قد قام على نظرية داروين ليس في اصالة الشر في طبيعة الإنسان فقط، بل وأيضاً في جعل الكفاح من اجل الوجود الوسيلة الوحيدة لرقي الإنسان.
ب- وفرويد، يجعل الصفة الاعتدائية طبيعية في الإنسان متجاهلاً تماماً صفة الرحمة فيه، بل يتطرف بالقول: إن اعاقة الاعتدائية على العموم شيء غير صحي.
ج- وتطرف فريق ذات اليمين، فلم يرَ في الإنسان أي شر اصيل، وقال: ان الطبيعة الانسانية غير مصابة بأية خطيئة أصلية غير الخطيئة الاصلية التي ارتكبها المجتمع ضدها. ومثَّل هذه النظرية: روسو وكانت وغوته وآخرون.
وكانت من نتائج اصالة الخطيئة دون الفضيلة؛ اليأس من اصلاح الإنسان، بل وتبديل القيم الى حد الزعم بان الرذيلة نوع من الفضيلة، اما النظرية المعاكسة فكان من نتائجها تحميل التربية كل اخطاء الإنسان وتناسي العوامل المضادة في ذات البشر وبالتالي عدم الواقعية في ذات البشر.
إن الانسان حسب نظرية الاسلام ليس مخيراً بالمرة، فهناك الوراثة والتربية بل عامل الكفاح من اجل الحياة، تفرض عليه احياناً اتجاهاً محدداً، الا انه من جانب آخر ليس مسيّراً بالمرة فهناك عامل العقل الذي يسمو به احياناً اخرى الى الثورة ضد عوامل الفساد، والعقل هذا موهبة يتأصل في ذات الإنسان الى كائن حضاري لا جبر فيه ولا تفويض بل امر بين امرين.
|
|