المفجّع البصري. .. شاعر البصرة واديبها
|
*منذر الخفاجي
إن كان قيل لي المفجّع نبزاً
فلعمري أنا المفجّع هماً
هذا البيت لشاعرنا المفجع يعطي صورة واضحة لحاله، فهو يعيش حالة مستديمة من التفجع بينما لايدرك من (ينبّز) هذا اللقب عليه، الحالة التي كان يعيشها فحياة شاعر أهل البيت عليهم السلام (المفجّع البصري) رحلة شاقة مع الألم والمعاناة وشأنه شأن الكثيرين من شعراء أهل البيت عليهم السلام في وقوفهم الى جانب الحق وتصديهم للسلطات الجائرة حتى اختتمت بالشهادة، لكن الذي ميز شاعرنا هنا هو الغبن الذي لاقاه في حياته وبعد مماته فقد سلبته يد الكتاب والمؤرخين والمحرفين حتى لقبه الذي صنعه بولائه وعقيدته فحاولوا تحريفه.
فلم يكن (المفجّع) لتفجعه على اهل البيت عليهم السلام فقط، بل كان (المفجوع به) و أول من فُجع به، أدبه الذي تشير المصادر الى انه كان أدبا قلّ نظيره في تاريخ الادب العربي، أما ما أُبرز منه فقد تم على يد مجموعة من العلماء الاعلام المتأخرين الذين سبروا غور الكتب ليتحفوا المكتبة الادبية بتراث ثرٍ وأدب نفيس.
التهميش ثمن الولاء لأهل البيت (ع)
واذا كان شاعرنا المفجع بعيداً عن بلاط الخلافة ولم يمدح بشعره سوى من يستحق ذلك، فهو من الطبيعي ان تناله هذه الجفوة من المؤرخين، ولكن السؤال الذي يشتعل في الاذهان هو أين ذهب المهتمون بالادب من طلاب العلم والغيورون على الادب؟ وما السبب في تغافلهم عن أدب رفيع وعَلَم مهم كأدب المفجع وعلمه؟
أليس من العجيب ان يصفه التاريخ بالمفجّع ويعزو سبب ذلك لـ (تفجعه على اهل البيت عليهم السلام) ولا نرى من شعره في أهل البيت إلا النزر اليسير؟ اذن هناك يد أخرى غير يد السلطة العباسية كانت تعبث بهذا الادب في الظلام، انها يد العصبية العمياء. وهناك امثلة كثيرة على ذلك تركناها خشية الاطالة، ونحيل القارئ العزيز الى الكثير من مصادر الادب المعتبرة ليطلع عن كثب على تلك الامثلة، فاذا كان من الشعراء من يقول قطعة من مدح اهل البيت عليهم السلام، فأنك تراها قد اسقطت من ديوانه حتى تنسى وتضيع فكيف بالمفجّع الذي لم يمدح ولم يهج إلا لحبه لأهل البيت عليهم السلام وبغضه لاعدائهم.
كان المفجع كثير النتاج غزيراً بالمؤلفات في فنون العلم والادب. فهو شاعر البصرة وأديبها. وايضاحا للحقيقة وليس تشدقا في الكلام نورد بعض ماقيل عنه ليستشف القارئ مدى جناية المؤرخين عليه وقياس ما أنتجه مع ما هو موجود.
قال عنه الحموي في معجم الادباء (ج17 ص196): (وكان يجلس في الجامع بالبصرة فيكتب عنه ويقرأ عليه الشعر واللغة والمصنفات). وقال الثعالبي في يتيمة الدهر (ج2ص334): (وله مصنفات كثيرة وهو صاحب ابن دريد والقائم مقامه بالبصرة في التأليف والاملاء). اما بالنسبة الى شعره فكل ما احتوى ديوانه الذي جمعه وحققه الاستاذ عبد الرسول الغفار هو (285) بيتا بينما تثبت الروايات التي جاءت بحقه على انه كان شاعرا مجيدا مكثرا واغلب شعره في أهل البيت عليهم السلام والتفجع على مصائبهم حتى لُقب بالمفجّع، ونقتطع من هذه الروايات نماذج قليلة ليبين حجم الشعر الكثير الذي ضاع او بالاحرى أُضيع. قال القفطي في (انباه الرواة في انباء النحاة) (ج3ص289): (وكان - اي المفجع - صحيح المذهب سُمّي بالمفجع) وقال المرزباني في معجم الشعراء (ص43): (وهو شاعر مكثر عالم أديب)، وقال النجاشي في الرجال (ص264): (وله شعر كثير في اهل البيت عليهم السلام) وقال الحموي في معجم الادباء: (ج17 ص202): (وشعر ابي عبد الله المفجع كثير حسن). و وفقا لهذه الشهادات من كبار الرواة يتضح لنا ان شعره قد جمع في حياته او بعد مماته بقليل ويؤكد ذلك ابن النديم في الفهرست ص (193) حيث يقول: (ان شعر المفجع ابو عبد الله البصري يقع نحو مائتي ورقة). ويقدر الاستاذ عبد الرسول الغفار ديوان المفجع بـ (أربعة آلاف بيت) اي بحجم ديوان المتنبي، فأين ذهب...؟!
على كل حال ليس هناك جواب حازم عن هذا السؤال سوى ما افرزته طبيعة تلك الفترة من الصراع السياسي والمذهبي الذي لعب دورا كبيرا في اضاعة الكثير من التراث الادبي والفكري اضافة الى تزييف الحقائق المقررة، وهذا الموضوع يحتاج الى دراسة مطولة. ولنعد الى ما هو موجود في ديوان المفجع، فقد ضم الديوان نتفا وقطعا وقصائد قصيرة (بين البيتين والخمسة عشر بيتاً) اضافة الى قصيدة (الاشباه) التي تعد من غرر شعر المفجع وهي بحق أمير المؤمنين عليه السلام وقد عثر المحقق على نسخة من هذه القصيدة مع شرحها بخط الشيخ احمد نجف علي الاميني التبريزي وتاريخ نسخها سنة (1354هـ) في ايران وقد أهداها الى العلامة الشيخ محمد السماوي في النجف الاشرف في نفس السنة، وتبلغ القصيدة (160) بيتا، وهناك ثلاث نسخ أخرى للقصيدة هي: نسخة الشيخ احمد نجف الذي اهداها للشيخ محمد السماوي وبدوره اهداها للشيخ أغابزرك الطهراني ونسخة الشيخ محمد طاهر السماوي ونسخة الشيخ محمد علي الاوردبادي ويقول السيد محسن الامين: ان هذه القصيدة تبلغ ثلاثمائة بيت.
الشاعر والنحوي والكاتب
لقد أنسانا مصير شعره، عن الحديث حول شاعرنا وحياته، او ربما كان ذلك تحاشيا في الخوض في غمار التراجم المتباينة والمتضاربة جدا والتي شملت كل شيء عنه اسمه ونسبه وولادته، زمانها ومكانها، ونشأته ووفاته وقد أربت هذه التراجم على الخمسين مصدرا واغلبها تراجم مقتضبة جدا والبعض منها لايتجاوز اسمه فقط، وخلاصة هذه التراجم هي ان اسمه هو ابو عبد الله محمد بن احمد بن عبد الله الكاتب النحوي البصري، ولد في البصرة على اكثر تقدير في زمن الدولة العباسية، اما العام فالله وحده يعلم، اما سنة وفاته فقد تأرجحت ما بين الاعوام (320هـ و 329هـ)، غير ان أرجح الاقوال المعتمدة على الحوادث التاريخية هو (327هـ) وهو ما اعتمده الحموي. وقد اشارت الروايات والدلائل التاريخية الى ان جامع البصرة الكبير كان باكورة حياة شاعرنا المفجع العلمية والادبية منذ طفولته حيث كانت تعقد الجلسات العلمية وحلقات التدريس، فنهل منها وعايش اوساطها العلمية وكان يغادر البصرة في بعض الاحيان الى جارتها الاهواز وبعض كورها كما يستشف من خلال شعره.
كان عالما باسماء المدن والبلدان والمواضع مما يدل على انه كان قد زارها أو مر بها. وكانت البصرة في ذلك الوقت من المدن العلمية الاسلامية الكبيرة حيث ازدهرت بعلومها المختلفة منذ منتصف القرن الثاني وحتى أواخر القرن الرابع وقد برز فيها الافذاذ من العلماء والفقهاء والادباء الكبار ولا نغالي اذا قلنا ان شاعرنا كان ابرز من ظهر في تلك الفترة لشمولية ثقافاته المتعددة وادبه الواسع وعلمه الجم ويدلنا على ذلك فضله على الكثير من العلماء الذين كانت لهم الصدارة في تاريخ الادب العربي، فقد كان شاعرنا شيخ الحسين بن خالويه النحوي واستاذه كما كان من تلامذته ايضا الآمدي والخبزأرزي والوراق وابن لنكك البصري وعبد الله بن بشران والحسن بن سهل الايذحي والشهرزوري الحنظلي وابو نصر الطوسي وعلي بن احمد بن عبدان واللحام والاكفاني وابو الحسن السمام والمرزباني وغيرهم وهؤلاء كلهم قد تضلعوا في اللغة والادب وكان لهم شأن كبير فيها، اما الذين تتلمذ عليهم شاعرنا فأبرزهم ثعلب ابو العباس امام النحو وسليمان البغدادي وابو موى الحامض والريّاشي وغيرهم من ائمة النحو.
وكان المفجع اضافة الى كونه شاعرا مجيدا، فقد عرف بالكاتب وهذا اللقب لايطلق إلا على من نبغ في هذا الفن وألمّ بخصائصه، كما كان حافظاً للقرآن الكريم،ن متدبراً آياته بارعاً في علم الحديث وروايته، مطلعاً عن كثب على التاريخ الاسلامي وحوادثه ومعرفته الواسعة بتفاصيله، اما بالنسبة الى اللغة فقد عرف بتوحده في هذا المجال وتفرده بلم شواردها بعد ابن دريد، وخير دليل على ذلك كتابه (الترجمان في معاني الشعر)، حيث تصدى لشرح ما غمض من الكلمات والاشعار في دواوين العرب القدامى والمحدثين، وقد نقل عنه المرزوقي في شرحه لديوان الحماسة للتبريزي ويشتمل كتاب الترجمان على ثلاثة عشر فصلا جمع فيها كل فنون الشعر واغراضه وايضاح ما التبس منه، قال عنه القفطي في (المحمدون من الشعراء) (ج1ص23): (لم يعمل مثله في معناه)، واضافة الى هذا الكتاب أو بالاحرى الموسوعة الادبية الشاملة، فلشاعرنا مصنفات أخرى كثيرة لكن مصير تآليفه لم يكن بأحسن حظ من مصير شعره فقد كان (صاحب مصنفات كثيرة وهو صاحب ابن دريد والقائم مقامه بالبصرة في التأليف والاملاء)، كما يقول الثعالبي في يتيمة الدهر (ج2ص362)، ومع ذلك لم تذكر له المصادر المتناثرة سوى خمسة عشر كتابا منها: (اخبار الاوائل، اشعار ابي بكر الخوارزمي، اشعار الجواري، اشعار الحراب، اشعار زيد الخيل، الذخائر، سعادة العرب، الشعر ومعانيه، عرائس المجالس، كتاب الاعراب، كتاب الهجاء، المنقذ في الايمان).
اما بالنسبة لعقيدة شاعرنا فقد كانت ناصعة خالصة بحبه لأهل البيت عليهم السلام و ولائه لهم، فقد اثنى عليه النجاشي في الرجال (ص264) بقوله: (جليل من وجوه أهل اللغة والادب والحديث وكان صحيح المذهب حسن الاعتقاد وله شعر في أهل البيت عليهم السلام)، والقفطي في انباه الرواة (ج3ص313): (وكان شاعرا شيعيا وله قصيدة يسميها (الاشباه) يمدح فيها عليا كرم الله وجهه وبنيه)، والصفدي في الوافي بالوفيات (ج1ص129): (وكان شاعرا مفلقا وشيعيا متحرقا) واخيرا الاميني في الغدير (ج1ص362) : (ومن المعدودين من اصحابنا الامامية مدحوه بحسن العقيدة وسلامة المذهب وسداد الرأي وكان كل جنوحه الى أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد اكثر في شعره من الثناء عليهم).
عديد أغراض الشعر
اما بالنسبة الى اغراض شعر المفجع فقد توزع شعره على جميع الاغراض إلا انه اهتم بغرضي المديح والرثاء اللذان اصبحا ظاهرة بارزة في شعره وتوزع شعره الباقي على باقي الاغراض كالغزل والوصف والهجاء والغرض الاخير كان نابعا من خصومة ملؤها عقيدة الشاعر وتشيعه لآل البيت عليهم السلام كقوله يهجو الفضل بن العباب الجمحي:
ابو خليفة مطوي على خنس
للهاشميين من سر وإعلان
مازلت اعرف مايخفي وانكره
حتى اصطفى شعر(عمران بن حطان)
اما اشهر شعره فهو قصيدته (الاشباه) وفيها يمدح امير المؤمنين عليه السلام ويعدد فضائله ومناقبه كما يتطرق الى الاحاديث الشريفة بحقه عليه السلام وهو يفتتح قصيدته بهجاء من يلومه على حبه لعلي وفي ذلك وثيقة ايضا على انه كان محاطا كشعره بمن يناصبه العداء لحبه هذا من الذين كانوا سببا في ضياع شعره واخفائه يقول المفجع في مقدمة قصيدته (الاشباه):
أيها اللائمي لحبي عليا
قم ذميما الى الجحيم خزيا
أبخير الانام عرضت لازل
ت مذودوا عن الهدى مزويا
أشبه الانبياء كهلا وزولا
وفطيما وراضعا وغذيا
كان في عله كآدم إذ
علّم شرح الاسماء والمكنيا
وكنوح نجى من الهلك من سيّر في الفلك اذ علا الجوديا
وعلي لما دعاه اخوه
سبق الحاضرين والبدويا
وهي ملحمة كبرى تعرض فيها الشاعر الى الكثير من معاجز الامام امير المؤمنين عليه السلام يقول فيها:
ان هارون كان يخلف موسى
وكذا استخلف النبي الوصيا
وكما استضعف القبائل هارو
ن و راموا له الحمام الوحيا
نصبوا للوصي كي يقتلوه
ولقد كان ذا محال قويا
وفي ختامها يقول:
حاز اذ قاسه الى سورة التوحيد في فضله الثناء العليا
واذا ارتاش والبتول ونجلاه مع المصطفى الكسا الحضرميا
وبهم باهل النبي فحازوا
شرفا يترك الرقاب حنيا
فعليهم أزكى وأذكى صلاة
وسلام يقفو الزكي الذكيا
فعليه السلام ماغنت الطير
وناحت على الغصون بكيا
اما سبب وفاة المفجع فكانت بسبب خصومة عقائدية بينه وبين ابي يوسف القاضي حيث تعرض الشاعر في احدى قصائده لسب القاضي فهجاه المفجع وبلغت الخصومة ذروتها مما حدا بالقاضي الى ارسال بعض اعوانه فقتلوا المفجع شر قتلة.
|
|