الفوائد العقلية والروحية للانفتاح على الغيب
|
*فيصل العوامي
أن القصور في فهم الغيب ينبئ عن قصور في فهم الدين نفسه، خاصة أن الآيات القرآنية اعتبرت العاقل هو الذي يرى الغيب ويسلم به، ويعتمد عليه، وغيره مَن لا يعتمد على ذلك وإنما لا يرى إلا الواقعيات البحتة.
يستحسن بنا أن نلفت الانتباه إلى الأضرار العقلية الروحية التي تهدد العقل بفعل التحفظ المستمر واللامحدود مع الغيب بقصد أو بلا قصد، وفي الحين نفسه الفوائد العقلية والروحية للانفتاح على الغيب. ولا شك أن الفوائد والمضار هنا بينهما تقارن، إذ ما يمكن أن يكون ضرراً على فرض التحفظ يمكن أن يكون فائدة على فرض الانفتاح. فما هي تلك الفوائد والمضار في آن. أما ما يعود على العقل فأمران: أولهما علمنة الحقائق. إذ أن ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من حقائق عبر الجهد المادي الشخصي وما يسعى للوصول إليه من خلال النظر في الماديات فقط، وإن كان له قيمة وقابل للتقدير، إلا أنه في كثير من الموارد التي يكون بها صبغة غيبية يعد ناقصاً وغير علمي، ولا يمكن أن يُعلمن إلا إذا استند الإنسان إلى الغيب وسلم بمؤديات أخباره.
لهذا لو أن الإنسان أتعب نفسه واستنفر كل طاقاته وإمكاناته، محاولاً التعرف على الذات الإلهية ـ كما فعل بنو إسرائيل حين طلبوا من موسى (ع) أن يريهم الله جهرة ـ أو التعرف على نحو العلم التفصيلي المادي والتحليل الدقيق لا المعرفة العامة على كيفية خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الكون، وكيفية اطلاعه التفصيلي على أفعال العباد ـ كما فعل بعض الأوائل من الفلاسفة المسلمين ـ فإنه لن يحرز سوى مجموعة من الأوهام، التي تكون وبالاً على العقل والمعرفة معاً. إذ أن الإنسان لم يؤت أدوات التفكير في مثل هذه الأمور الغيبية، ولا يسعه إذا أراد أن يحافظ على الحالة العلمية لعقله وتفكيره إلا أن يُسلم بما جاء به الغيب وكفى.
فبالنسبة لمعرفة الذات الإلهية مثلاً، الغيب لم يكشف لنا شيئاً سوى أنه عرّفنا على الخالق من خلال أسمائه وصفاته وحدد لنا مقاييس لهذه الأسماء والصفات وألزمنا بها ، حتى لا يذهب عقل الإنسان بعيداً ويشط في تصوير تلك الأسماء والصفات، بل ونهانا عن التفكير خارج حدودها. فقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره). وقال الإمام الصادق (ع): (إياكم والتفكر في الله فإن التفكر لا يزيد إلا تيهاً، إن الله عزوجل لا تدركه الأبصار ولا يوصف بمقدار).
وهكذا هو شأن سائر الأمور الموقوف علمها أو علم حكمها على الغيب، فإنه لا يسع الإنسان العاقل إلا أن يسلم بها، لأنه لا يمكن أن يصل إلى شيء فيها. لهذا فإن التنكر للحقائق والممارسات ذات الطابع الغيبي بالاعتماد على العقل المجرد، هو ظلم للعقل وللعلم معاً. ومن يريد المحافظة على عقله لابد أن يعلمنه بالحقائق الغيبية، أما من يدع كل ذلك ويعتمد فقط على مؤديات الواقع المجرد فإنه لن يملأ عقله إلا بالأوهام، وما أبلغ ضرر هذه الأوهام على العقل.
هذه هي الأضرار الأولى أو الفوائد إذا نظرنا لها بصورة عكسية، التي تعود على العقل. وثانيهما هداية العقل. فالغيب هو نور يضيء الطريق للعقل، وبدونه تتعثر حركة التفكير. وهذا الأمر ينظر إليه تارة من جانب معنوي وتارة من جانب منهجي. فأما المعنوي فهو ما يظهر من الاتصال المباشر والعضوي بين الروح - القلب والنفس - والعقل في خصوص القضايا العلمية، إذ أن الروح لها دخل كبير في ضبط الحقائق التي يحللها العقل، ولهذا جاء في الآيات القرآنية مزج بين العقل والقلب - والقلب إشارة إلى الروح إذ تارة يعبر عنها بالقلب وتارة بالنفس الاصطلاح القرآني - في مجال تحصيل العلوم، حيث قال تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها". "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها". "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها". فمع أن مجال التفقه والتعقل والتدبر هو العقل لأنه هو الذي يتعامل مع الأفكار، إلا أن الآيات تلقي بالمسؤولية على القلب، وذلك إشارة إلى أن للروح دوراً أساسياً في تحصيل العلوم وضبطها.
وأما المنهجي فهو أن الغيب يرسم مناهج عقلية دقيقة من شأنها إيصال الإنسان إلى الحقائق، إنه يهديه إلى الحقائق التي يحتاجها عبر العديد من المناهج والعديد من القيم والوصايا، التي لو خالفها واعتمد على غيرها مما يبدعه عقله المجرد، لكان وقوعه في الخطأ أقرب من غيره.
هذا بإيجاز ما يعود على العقل، وأما ما يعود على الروح العملية - وليس النظرية التي تتصل بالعلم المتحدث عنها سلفاً - فأمران مهمان:
الأول: الإيجابية. وهي تقتضي بعث روح التفاؤل لدى الإنسان في تعاطيه مع الحياة. وللتأكيد على هذا الأمر المسلّم به فإنه إذا اتصل الإنسان بالغيب على أدواته المتاحة، وهي الممارسات المنصوصة أو المقرة بعدم الردع، والتي من شأنها جميعاً إيجاد خط صلة مع الله سبحانه وتعالى في كل حين من شدة أو رخاء. إذا اتصل الإنسان بالغيب بهذه الطريقة، فإن الغيب يبعث لديه الاطمئنان ويشعره دائماً بملازمة العناية العليا له. يقول تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد /28). الثاني: تشذيب الحالة الذاتية. فالانجراف وراء العلم مع تناسي الغيب، قد يبعد الإنسان عن الهدف الحقيقي والأسمى للعلم وهو كسب رضى الله سبحانه وتعالى، مما يؤدي إلى إصابة الإنسان بأمراض الكبر والضرر والخيلاء والتباهي بالعلم وما أشبه من الأمراض النفسية. وذلك أن العلم ميزة يمكن أن يتميز بها الإنسان على سائر البشر، حتى عدّ ذلك شبيهاً بالأصل العقلائي لشدة ارتكازه عند العرف، لهذا يصح الادعاء بأن الأمر بالعلم في الشريعة أو الحث عليه بالطرق المختلفة إنما هو من باب الإرشاد لا المولوية. فحين يقول الباري جل وعلا: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر /9) وحين يقول الرسول (ص): (اطلبوا العلم ولو بالصين). فإن هذا الحث والترغيب إنما هو إرشاد حكم العقل بوجوب طلب العلم وبالتالي لزوم التمييز بين العالم والجاهل. وحيث أن العلم ميزة عقلائية وشرعية أيضاً حيث اعتبرها الشارع ميزة ، فإن الإنسان إذا تشبع بالعلم ورأى في نفسه القدرة الكافية على التعامل مع الأفكار، في حين رأى من جانب آخر من قد يكون أقل مستوى منه، قد يصاب بأمراض العلم ويسترسل معها، حتى تأخذه بعيداً فيتنامى عنده الغرور والإعجاب بالذات، ويتوسع عنده الكبر إلى حد لا يطاق، فتجده ينظر إلى نفسه نظرة طاووسية معجباً بذاته وكأن لا أحد يفهم العلم والحياة غيره.
ذلك يحدث إذا لم يكن الإنسان متصلاً بالغيب، لأن الغيب يربطه بما هو أكبر منه وأسمى، وهو الهدف وراء العلم والتعلم، من طلب رضى الله سبحانه والدعوة إليه، وكل ذلك يجعل عينه مفتوحة على حركته النفسية وسلوكياته الاجتماعية، فيعتدل فيها. من هنا فإن الاتصال بالغيب، يضع الإنسان دائماً أمام هدفه الحقيقي، لهذا فإن كل ما عدا ذلك الهدف يتصاغر عنده، ويصبح كأن لا قيمة له.
|
|