الخامس من صفر ذكرى وفاتها الأليمة
رقيّة .. دمعة المظلوم وعاقبة الظالمين
|
*حسين محمد علي جواد
إنها شمس تنتظرها القلوب الباردة صباح كل يوم لتوقد فيها شعلة المظلومية وجذوة الرفض لكل ما يصدر من ظلم وطغيان من بني البشر. في خاصرة مركز الخلافة الاموية وبالقرب مما يسمى اليوم (الجامع الأموي) بالعاصمة السورية دمشق، تقع هذه الشعلة المتوهجة لتقدم للاجيال إحدى أهم دروس كربلاء الحسين، فلا يجرؤ أحد اليوم على الحديث عن انجازات الحكم الاموي على الصعيد الاجتماعي عندما يرمق بنظرة واحدة القبة الشامخة لإحدى ضحايا القسوة والظلم الاموي، تضم مرقد إحدى بنات الامام الحسين عليه السلام، وهي ذات الاربع سنوات توفيت و دُفنت في هذه المنطقة في ظروف غاية في القسوة والمرارة، لتكون على خطى جدتها الزهراء عليها السلام مثلاً للاجيال بان الظلم والطغيان مهما كبر واتسع وهيمن، فانه قد ينهار أمام ظلامة عبرة مظلوم او بكاء طفلة صغيرة.
إنها السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام... هذه اليتيمة التي اطلقت صرخاتها المدوية للتاريخ بأنها تريد أباها من الظالم فخلّد لها تلك الصرخات، وهي ما تزال تستفهم الانسانية، كيف يتسنّى لشخص يُدعى (انسان) أن يجيب طفلة صغيرة تسأل عن والدها، بتقديم رأسه المقطوع اليها...؟! حدث هذا وقد مضى على تأسيس الدولة الاسلامية على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله 61 عاماً، وقبل ذلك كان النبي يدعو للتسامح والنبل وصون المشاعر الانسانية والقيم الاخلاقية طوال ثلاثة عشر سنة في مكة، ولكن أنّى لهم الذكرى...
إن معروفية وشهرة قصة رقية في (خربة الشام)، وكيف توفيت هذه الطفلة المظلومة، هي بالحقيقة جزء لا يتجزأ من قصة أبيها الحسين وكيف قضى مع أهل بيته وصحبه على ارض كربلاء. فالمهم هي العبرة التي يجب ان نستلهمها من هذه الشهيدة بشهادتها على القساوة البشرية والمشاعر المتحجرة. لذا كرّمها الله تعالى بهذه المنزلة في قلوب الملايين ومنذ ذلك اليوم وحتى يوم القيامة. كما جعل عندها الكرامات العظيمة التي يتناقلها الناس، حتى بات المؤمنون من لديهم طفلة صغيرة تعاني مرضاً عضالاً، يُئمّون هذه الشهيدة المظلومة حتى يشفع الله لهم بمظلوميتها ويقضي بها حاجاتهم.
الحسين مع رقية في مسيرة السبي
أثناء مسير قافلة السبايا بعد أن غابت الشمس، توقفت القافلة قليلاً، وحين أرادوا اكمال المسير وجدوا الرمح الذي كان عليه رأس الإمام الحسين (ع) ثابتا في الأرض لا يتحرك... رغم محاولات حامله أن يحركه أو ينتزعه فلم يستطع.. فاستعان بمن كان معه فلم يفلحوا. فلجأوا للإمام السجاد (ع) سائلين عن السر في الأمر، فأمر عمته السيدة زينب (ع) بتفقد الأطفال، وتتأكد من عدم فقدان أحدهم.
فأخذت السيدة زينب (ع) تتفقدهم واحداً واحداً فاكتشفت فقدان طفلة واحدة لم تكن في القافلة. إنها (رقية)، فأخبرت الإمام زين العابدين علي السجاد (ع) بذلك، فأخبر الإمام السجاد (ع) الجنود: إن الرأس لن يتحرك قبل العثور على الطفلة... وحين بحثوا عنها ولم يجدوها.. أشار عليهم الإمام أن يبحثوا في الجهة التي ينظر إليها الرأس الشريف، وحين توجهوا وجدوا الطفلة نائمة تحت فيء نخلة بعد أن أتعبها السير المتواصل، فجاءها أحد الجنود و أيقظها برفسةٍ من رجله ثم ضربها بسوطه، وبعد أن عاد بها احتضنتها السيدة زينب (ع) ومسحت دموعها، وعند ذلك تحرك الرمح من مكانه.
الكريمة حتى مع غير المسلم
هنالك الكثير من القصص والحالات التي حصلت فيها استجابة الدعاء والتوسل عند ضريح السيدة رقية سلام الله عليها بشفاء العديد من الاطفال. لكن هنا قصة مختلفة تماماً، فهي لعائلة مسيحية، لا علاقة لها بالمراقد المقدسة لأهل البيت، لكن لننظر الى الكرامة التي اعطاها الله تعالى لهذه المظلومة لتبقى حيّة في الضمير الانساني.
كانت هنالك عائلة مسيحية تسكن الشام، لديها طفلة مصابة بالشلل ولا تستطيع السير على قدميها، وقدعرضوها على أطباء في سوريا وخارجها فعجزوا عن علاجها.
وفي أحد الأيام جاء والد الطفلة وأمها إلى مرقد السيدة رقية بنت الحسين عليه السلام، فطلبت الأم السماح لها بالجلوس على عتبة باب السيدة رقية (سلام الله عليها) فسمحوا لها، وبعد جلوسها على عتبة الباب أخذها النعاس وراحت في نوم عميق وفي منامها رأت: أن طفلة قد فتحت باب دارها وذهبت إلى غرفة ابنتها المريضة وأيقظتها من نومها وطلبت منها النهوض من مقعدها واللعب معها. فقالت لها الطفلة:
أنا مريضة ولا أستطيع القيام واللعب معك.
فقالت لها: أنا أتيت للعب معك فيجب عليك القيام فسحبتها من مكانها وقالت لها: تعالي نلعب....!
فما كان من الطفلة إلا أن قامت و راحت تلعب معها وهي فرحة. وعندما استيقظت الأم من منامها وهي في دهشة واستغراب وطلبت من زوجها الذهاب فوراً إلى البيت لأنها رأت شيئاً عجيباً يكاد لا يصدق، فذهبوا فوراً إلى البيت وعندما طرقوا باب البيت وإذا بابنتهم المريضة هي التي تفتح الباب وتستقبلهم حتى أنهم لم يصدقوا الذي أمامهم وماذا حدث، وابنتهم وسطهم فرحة فقالوا لها: ماذا حدث؟ قالت: عند خروجكم من البيت وبعد ساعة وإذا بطفلة واقفة على رأسي وتقول لي:
استيقظي وتعالي نلعب، فقلت لها: أنا مريضة ولا أستطيع القيام فكيف ألعب معك.
فقالت: يجب عليكِ القيام، فسحبتني نحوها وقمت ألعب معها وها أنا كما ترونني.
فقالت الأم: نعم لقد صدقت الرؤيا، إني رأيت الطفلة التي دخلت عليكِ في المنام وقصَّت ما رأت على زوجها عندما علموا أن هذه الطفلة هي السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام).
المرقد في خارطة القلب
يقع مقام السيدة رقية (عليها السلام) على بعد (100 متر) أو أكثر من (الجامع الأموي) بدمشق، وعندما تريد الدخول إلى صحنها المطهر أول ما يلفت نظرك، اللوحة التي على باب مقامها الشريف مكتوب فيها: (هنا مقام السيدة رقية بنت الحسين (عليه السلام) الشهيد بكربلاء. ترى مقامها كالدّر الأبيض الذي يلمع، وفي حينه تتذكر تلك الأيام الرهيبة والنفوس الخبيثة التي أرادت إطفاء نور فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها (عليهم السلام) ولكن هيهات، قال سبحانه وتعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون". وقد دأب المسلمون شيعة وسنة على زيارة مقامها الشريف والمبارك حتى أصبح من المشاهد المشرفة التي تهوي إليها النفوس من كل فج عميق. وقد إلتجأ إلى قبرها كثير من الناس بحوائجهم، فجعلوا هذه اليتيمة شفيعة ووسيلة إلى الله سبحانه، وقد قضى الله حوائجهم.
يعود تأسيس مرقدها المبارك إلى سنة 526هـ، واول من بنى على قبرها السلاطين البويهيين. ومن ثم توالت على المرقد عمارات متتالية وفي سنة 1125هـ جدد بناء الضريح وبعدها عمّر قبرها في زمن العثمانيين، وفي سنة 1323 هـ جدد بناؤه على يد الميرزا علي اصغر خان أمين السلطان في عهد ناصر الدين شاه القاجاري، وفي سنة 1399 تم توسعة المرقد الشريف، وفي سنة 1408هـ تم استبدال الضريح القديم المصنوع من خشب الصاج، بآخر مصنوع من الفولاذ وقد جرت عليه أيدي اربعين شخصا من الفنانين البارعين، حيث تم تزيينه بالنقوش الرائعة والتذهيب، وهو اليوم يزهو للناظر بحجمة الصغير والمثير لا يدع الزائر وهو يخطو نحوه إلا أن يذرف الدموع ويعتصره الأسى والألم لما حلّ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله.
وتبلغ مساحة البناء الجديد لمرقد السيدة رقية حاليا نحو 4000 متر مربع، ومنه 600 متر مربع صحن وفضاء واسع وبقية البناء يؤلف الرواق والحرم والمسجد المجاور للضريح، وتعلوا المرقد قبة مضلعة و وضع على القبر صخرة من الموزائيك ذات العاج والمرمر، والبناء فخم وضخم يتوافد عليه الزوار من شتى بقاع الارض. وكتب على الباب أبيات من الشعر العربي من قبل الحاج احمد رضا الشيرازي وهناك قصائد حول القبر منها قصيدة للمرحوم الدكتور السيد مصطفى جمال الدين تعبّر عن روح الولاء لأهل البيت (ع) ومكتوبة بماء الذهب يقول فيها:
في الشام في مثوى يزيدٌ مرقد يُنبيك كيف دم الشهادة يخلد
رقدت به بنت الحسين فاصبحت حتى حجارة ركنه تتوقد
هيا استفيقي يا دمشق وايقظي وغداً على وضر القمامة يرقد
واريه كيف تربعت في عرشه تلك الدماء يضوع منها المشهد
سيظل ذكرك يا رقية عبرةً للظالمين مدى الزمان يُخلّد
|
|