مقامات الحريري.. ذروة في الادب العربي
|
*علي ياسين
يقول بروكلمان المستشرق الالماني في (تاريخ الادب العربي) : "ظلّ العرب يرون في مقامات الحريري وقصائد المتنبي أكمل تعبير عن روحهم حتى مطلع العصر الحديث".
على الرغم من ان بروكلمان قد سجّل في هذه الكلمات حقيقة تاريخية لمقامات الحريري في تناول الموضوعات التي تعبّر عن واقع الحياة وارتباطها بقضايا مهمة في تاريخ العرب إلاّ ان ظاهرة اتفاق الآراء في عمليتي القبول والرفض تبرز بشكل واضح في كثير من الاغراض التي عالجتها هذه المقامات والاساليب التي اتبعها الحريري في انشائها.
ولا يسعنا هنا عرض جميع الآراء إلاّ اننا نستطيع ان نقول ان اغلب هذه الآراء افرزتها الشحنات التي استندت على العاطفة اكثر من العقل في كلتا العمليتين غير اننا نحمل الموقف على مرتكز التأمل والفكر. فالقارئ اصبح يهتم بالشكل الادبي اكثر من اعتنائه بالموضوع، بل انه يكاد ينفر من الطابع القديم الذي دوّن من خلاله الشعراء والكتاب افكارهم وآراءهم على الرغم من ان المتاحف العالمية تفخر بامتلاك بعض لوحات الفنانين الذين عاشوا قبل عدة قرون وكذلك تفخر الجامعات العالمية بأن تضم مكتباتها مخطوطات قديمة تتحدث عن امة غير امتهم وبلغة غير لغتهم. ولسنا نريد هنا ان نؤرخ اسلوباً ادبياً لحقبة معينة بقدر ايضاح ان هذه الحقبة وربما تكون الهامة جداً بالنسبة الى تاريخنا الادبي لم تأخذ مداها الكامل من الدراسة الادبية. واذا كانت روح العصر في التغيير والتجديد تأخذ طريقها الى الساحة النقدية فان مما لامجال للشك فيه أن كل فن لاينبت فجأة دون مؤثرات أو جذور ومقدمات، وهذا ما تلاشى عن أذهان الكثير وغاب عنهم ان الادب الحديث يحمل سمات وآثار كثيرة تشبه الى حد بعيد الآثار السابقة.
ولنرجع الى مقامات الحريري التي تعد ثروة كبيرة من المفردات لاتغني عنها المعاجم الكبيرة ورغم انه - اي الحريري – لم يكن الرائد في هذا المجال فقد سبقه الى هذا الابتكار بديع الزمان الهمداني الذي يعد مؤسس هذا الفن إلا ان الحريري بلغ بهذا الفن ذراه من حيث الاحاطة والسعة حتى عدت مقاماته في صدارة الادب العربي.
في البصرة وفي عام 446هـ - 1054م ولد ابو محمد القاسم بن علي بن عثمان الحريري البصري وقد اكتسب لقبه – الحريري- من صناعة الحرير التي عرفت بها أُسرته وكانت تسكن في قرية صغيرة تسمى (المشان) ثم سكن الحريري حياً من أحياء البصرة يُعرف بمحلة بني حرام المنسوب الى قبيلة بني حرام.
ونبغ الحريري منذ صغره بالادب وتتلمذ على يد ابي القاسم الفضل بن محمد البصري وغيره من أعلام اللغة والادب حتى برع في اللغة وعُدّ من كبار لغوييّ عصره والف في هذا المجال كتاب (درة الغوّاص في أوهام الخواص) وكتاب (ملحة الاعراب) وهو عبارة عن منظومة في النحو وكتاب (شرح الملحة) كما كتب ايضا العديد من الرسائل التي جمعت في ديوان الى جانب ديوان شعره الضخم ومقاماته الخمسين التي عرف بها اكثر من غيرها من الفنون الادبية. ففي منتصف القرن الرابع تداولت كلمة المقامة على الالسن وتناقلتها الافواه على انها فن نثري بديع وقد ذهب البعض الى ان الفضل في تأسيس هذا الفن انما يعود لابن دريد لا لبديع الزمان الهمداني كما هو مشهور، وبغض النظر عن مدى صحة هذا القول إلا انه يتنافى وواقع الحال فلم يعرف الادب العربي مقامات لابن دريد، وعرف ان اول مقامات وصلت الينا وعرفناها باسم بديع الزمان الهمداني.
والمقامات عبارة عن قصص قصيرة وحوادث ومغامرات لا اتصال بين مقامة ومقامة وابطالها هم شخصيات من واقع الحياة واحيانا يلجأ الكاتب الى الخيال لخلق مواقف فنتازية يربطها بالواقع لإثارة قضايا اجتماعية وسياسية، اما كاتب المقامة فهو على صلة وثيقة بالبطل يراقبه عن كثب ويروي مغامراته رواية شاهد عيان، ولعل اول ما يلفت النظر في المقامات سجعها واسلوبها الادبي البديع على ان سجعها ليس من النوع الاجوف الممل الذي يسخّر المعنى فيه من اجل اللفظ المسجع، ويكاد يشعر المرء وهو يقرأ مقامات الحريري أو الهمداني ان الفاظها المسجعة وغير المسجعة احياناً هي افضل مايمكن استعماله للتعبير عن المعنى المقصود، هذا اضافة الى المزايا الانشائية والمحسنات البديعية التي تجد وفرة كبيرة منها في المقامات، واكثر مايسترعي الانتباه في المقامات هو ماتحفل به من حوار وسرد وغير ذلك من بوادر الكتابة القصصية الدرامية، وكل هذه المزايا تنطبق تماما على مقامات الحريري بقدر ماتصدق على مقامات الهمذاني التي سبقتها بنحو مئة عام، غير ان الحريري جعل من فن المقامات صناعة منمقة. يقول ياقوت الحموي في (معجم الادباء): (لقد وافق كتاب المقامات- الحريري- من السعد مالم يكن من الكدية وكان الحريري من اعيان الدهره وفريد عصره وممن لحق طبقة الاوائل عبر عليهم في الفضائل).
ونظرة واحدة الى احدى مقاماته تعطي للقارئ صورة واضحة عن مدى الاحاطة التي احاطها الحريري بمقاماته من حيث الفنون الكتابية والالوان البديعية سواء من حيث النثر او الشعر او المعاني والنظرة الى الحياة يقول في مقامته (القبور) وهي المقامة الحادية عشرة: (حدّث الحارث بن هشام قال: آنست من قبلي القساوة حين حللت ساوة، فاأخذت بالخبر المأثور في مداراتها بزيارة القبور، فلما صرت الى محلة الاموات وكفات الرفات، رأيت جمعاً على قبر يحفر ومجنوز يقبر، فانحزت اليهم متفكّراً في المآل متذكراً من درج من الآل فلما ألحدوا الميت وفات، فوليت اشرف شيخ من رباوة متخصراً بهراوة وقد لفع وجهه بردائه ونكر شخصه لدهائه فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. فاذكروا ايها الغافلون وشمروا ايها المقصرون واحسنوا النظر ايها المتبصرون. مالكم لايحزنكم دفن الاتراب ولايهولكم هيل التراب وتعبأون بنوازل الاحداث ولاتستعدون لنزول الاجداث ولاتستعبرون لعين تدمع ولاتعتبرون بنعي يسمع ولا ترتاعون لالف يفقد... الخ).
ولا شك ان القارئ يتحسس المزايا الفنية في هذه المقامة وخاصة اذا كان تحسسه وفق المفهوم التاريخي في تقدير الاحكام والأخذ بالاعتبار الاطار الزمني للمقامة. وتجيء المقامات الاخرى كلها على هذا المنوال والنسيج في رسم الاحداث والاستمرار في نفس الزخم والخيال الخلاق والبديع الجميل ولعل اكثر مايستشفه القارئ من هذا الجو هو الاسترسال في الجمل المرتبطة فلا تكاد جملة تنفصل عن الاخرى او صورة عن اختها في التداخل في الموضوع. وقد طعّم الحريري فضلاً عن هذا البديع مقاماته بالشعر على لسان ابطال مقاماته وهو من شعر الحريري كما لايخفى. يقول على لسان الشيخ في المقامة الآنفة الذكر – القبور-:
أيا من يدعي الفهم
اما بان لك العيب
اما تخشى من الفوت
وحتّام تجافيك
وان اخفق مسعاك
وان لاح لك النقش
وان مربك النعش
ـــــــــــــــــ العجز ــــــــــــ
الى كم يا أخا الوهم
اما أنذرك الشيب
وتحتاط وتهتم
وابطاء تلاقيك
من الاصفر تهتش
تغاممت ولاغم
وخلاصة القول ان مقامات الحريري تعد ثروة كبيرة لاتجد من يضاهيها في فنها وهي تستحق الدراسات المكثفة وتداولها في المناهج الدراسية.
|
|