(الفقه) .. حياةٌ للقلب والنفس والبدن
|
* السيد محمود الموسوي
لقد مرّ الاشتغال بالمعارف الإسلامية، متمثلة بالقرآن الكريم والنبي العظيم (ص) وأهل بيته الأطهار(ع)، بمراحل عديدة من التطوّر، ذلك الاشتغال الذي بدأ بعد عصر الغيبة باعتبار أن الكلام مخصوص بالاشتغال بالمعارف عبر الاجتهاد لتحصيل الأحكام والمعرفة الدينية من أدلتها المعتبرة، من دون وجود المعصوم بين ظهراني الأمة حاضراً يباشر ما تحتاجه، فعصر الغيبة هو البداية في اعتماد العلماء على ما توارثوه من العلم من معادنه الأصيلة، النبي الاكرم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، فلم يكن جامداً على حاله منذ تلك العصور، وإنما قد مرّ بمراحل عديدة، عبّرت عن مدى اهتمام العلماء بتحصيل العلم وصياغته وبلورته ونشره.
والفقه هو (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية)، وكما في الاصطلاح، هو جزء من المعارف الإسلامية التي جاءت لتصوغ شخصية الإنسان وتنظّم معتقداته وقوانينه على المستوى الفردي والاجتماعي ضمن كافة التسميات الحديثة، متجهة تلك الصياغة نحو تثبيت محورية الحق في الخلق، عبر تجليات متعددة في كافة الأحكام، وتلك التجليات هي عبارة عن أقسام الفقه في عباداته ومعاملاته المختلفة.
فلم تكن كلمة الفقه محصورة في علم الأحكام الشرعية في الخطاب القرآني أو في الروايات الشريفة الصادرة عن النبي الاكرم وأهل بيته المعصومين صلوات الله عليهم، إلا أن يشار إلى تلك الإرادة بقيد مذكور أو لدلالة سياقية أو حالية تشير إلى أن المراد من لفظ الفقه في هذه الرواية أو تلك، وكمثال على ذلك ما جاء عن الأصبغ بن نباته قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول على المنبر: (يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا شوبوا إيمانكم بالصدق، التاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق). ففي هذه الرواية يشير أمير المؤمنين (ع) إلى أهمية الفقه بمعنى أهمية معرفة الأحكام قبل الولوج في ميدان التجارة، وبقرينة ذكر السبب وهو خوف الوقوع في الربا الحرام.
وقد جاءت كلمة (الفقه) في القرآن الكريم والروايات الشريفة بمعناها الأشمل، وهو (العلم بالشيء والفهمُ له)، كما في قول الله تعالى: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ" (الانعام /65)، فتصريف الآيات المختلفة في الكون وفي حركة المجتمع إنما يهتدي بها الذي يفقهون فحواها، وقد تأتي بمعنى فهم الدين وتعاليمه كما في قول الله عز وجل: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة /122). إلا أن كل ما ورد في الشريعة من مواصفات وحيثيات تكلمت عن الفقه بذلك المعنى العام، فهي تشمل الفقه بالمعنى المصطلح، لأنه أوسع من العلم، والعلم داخل فيه وهو أحد علاماته كما قال الامام الرضا (ع): (من علامات الفقيه: الحلم والعلم والصمت)، ولهذا يمكننا الاستفادة من كافة الروايات التي جاءت لتصف الفقه والفقهاء في مواصفاتهما بالمصطلح الحديث، بل إن مضامين الروايات ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في رسالة الفقه والفقهاء، لكي لا تكون معزولة عن رسالة الدين ومقاصده، ولا يخفى أن هنالك بعض الروايات من استعملت الفقه والفقيه كما هو متداول اليوم، في شأن من يصدر الفتوى ويعلم الناس الأحكام، ويتضح ذلك من سؤال الإمام الصادق عليه السلام لأبي حنيفة: (أنت فقيه العراق...؟ قال نعم، قال: فيم تفتيهم...)؟!، وفي ترجمة النجاشي لأبان بن تغلب: قال أبو جعفر عليه السلام: أجلس في المسجد وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك).
الفقه بين الإطار والمحتوى
إن مأساة الأمم السابقة هي انتقالهم من الاهتمام بالمضامين والحكمة من الأحكام ورسالة التشريع ومقاصده، إلى صورة التشريع وشكلية الأحكام والاهتمام بالحروف دون المعاني، واهتمامهم بالأطر دون المحتوى، بل يحدثنا القرآن عن المشركين في مكة كيف تمرّدوا على رسالة النبي (ص)، ثم راحوا يعمرون مساجد الله، ويسقون الحاج، واعتبروا ذلك مثل الإيمان والجهاد، فردهم القرآن وقال الله سبحانه عنهم: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" (التوبة /19-20).
إن لمحتوى الأحكام وحكمتها أهمية بالغة، فلا بد من أخذها في الاعتبار من قبل المشرّع ومن قبل مطبّق التشريع، وإلا فإنها ستنفصل عن روح الدين، فلا تؤدّي فائدتها، فلا يصيب المصلي من صلاته إلا التعب، ولا يأخذ الصائم من صيامه إلا الجوع والعطش، بل تتحول إلى معول هدم لدين الإنسان، ولهذا جاءت الروايات لتبيّن فضل عبادة العالم والفقيه على العابد الجاهل، كما جاء عن الرضا (ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) قال: (فقيه واحد أشد على إبليس من الف عابد). وعن الامام الصادق (ع) قال: (ركعة يصليها الفقيه أفضل من سبعين ألف ركعة يصليها العابد).
وقد عرفنا منهج القرآن الكريم بأنه لا يذكر حكماً شرعياً إلا ويذكر بإزائه حكمة ذلك التشريع وسنة ذلك التشريع، ليفقه الناس مراد الله سبحانه ويعلموا حكمته ورسالته، فآيات تشريع الصيام يشفعها بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة /183)، والزكاة والصدقة "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" (التوبة /103)، وعن الصلاة "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" (العنكبوت 45). وهذا ما أشارت إليه سيدتنا الزهراء (ع) في خطبتها، حيث قالت: (كتاب الله بينة بصائره، وآي منكشفة سرائره... إلى أن قالت: ففرض الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة زيادة في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تسنية للدين، والعدل تسكيناً للقلوب..). فالفقه بهذه الصورة سيكون حياة للقلب والنفس والبدن، على مستوى الفرد والجماعة، وبهذا أنزل الله تعالى أحكامه وشرع شرائعه، ليعيش الناس حياة طيبة.
الفقه بين الثوابت والمتغيرات
من أهم الأصول في التفكير الفقهي هو أصل ثبات الأحكام من حيث حليتها وحرمتها، فالتشريعات إنما تقوم على سنن إلهية ثابتة لا يؤثر فيها الزمان أو المكان كما قال تعالى: "سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً" (الاسراء /77) ، وكما جاء في الحديث الشريف: (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره، ولا يجيء غيره).
إلا أن الزمان متغيّر ومتحوّل، وعليه فإن احتياجات الإنسان لأحكام وتشريعات تجيب على التحولات الطارئة يعد من أهم المهام للفقه الإسلامي، وهذا لا يعني أن الأحكام الإلهية متغيرة وفقاً لتغيّر الزمان، وإنما هي ملبية للمتطلبات المتغيرة للإنسان، مهما تغيّرت حياته، فهنالك عدة عوامل تؤثر في الجانب المتغير للإنسان، عدها آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (حفظه الله) في كتاب (التشريع الإسلامي) الجزء الثاني منه، نلخصها بالتالي:
1- التقدّم العلمي: وبالذات في ما يتصل في عمق وسعة العلاقات الاقتصادية بين سكان العالم، وتطور الحاجات المتبادلة، وتزايد الأخطار الناشئة من الصناعة الحديثة مما أوجب قوانين جديدة.
2- العرف: فقد كان العرف العام يعتبر بعض الأفعال سيئة أو غير جيدة لبعض الملابسات الخارجية العالقة بها، أصبحت الآن بسبب تبدل الظروف خلاف ما كانت عليه في أعراف الناس.
3- المصالح العليا: من أهم ما يتغيّر مع الزمان، المصالح العليا للأمة، الناتجة من طبيعة الحياة الحديثة والتحديات الحضارية القاسية فيها، كأن يداهم الأمة خطر في أي جانب من الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، مما يتطلب تعبئة عامة، وتشريعات جديدة وغير عادية.
4- الحالات الطارئة: فعندما تواجه الأمة أو الفرد حالات طارئة فإن التكليف يتغيّر تبعاً له.
فقه يستوعب الحياة
ويترشح مما ذكرناه أن الدين شامل لكافة الجوانب الحياتية للإنسان تحت مسمياتها الحديثة، فقد كانت متطلبات الأمة في العبادات والمعاملات بمسميات المراحل الخاصة بها، فتطورت المعاملات وأصبحت بمسميات مختلفة وفيها من التعقيدات والتفريعات العديدة، فالفقه الإسلامي له أحكامه في كل ذلك، (حتى أرش الخدش)، وفي كل ما يقوّم حياة الإنسان ويهديه ويعينه على تسخير الطبيعة من أجل التقدّم، وهكذا كانت بعثة الرسل والأنبياء لتحقيق الشهادة على العصر في كافة الجوانب، يقول تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل /89)، وهكذا اختلفت كتب الفقه وموسوعاته باختلاف حاجات الإنسان للمسائل المختلفة والأبواب المتنوعة، فتفرعت من أبواب التجارة تشريعات البنوك والتبادل الاقتصادي والاستثمار المركّب والمعقد، وهكذا في الحقل السياسي والحقوقي، والاجتماعي في الأسرة والأحوال الشخصية وغيرها.
ومن أبرز ما صدر في ميدان الاستيعاب لحقول حديثة متعددة في الفقه الإسلامي هي موسوعة الفقه الاستدلالية للمرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، المكونة من 150 جزءاً، احتوت على جميع أبواب الفقه المتعارفة من الاجتهاد إلى الديات، ثم أضاف تفريعات حديثة مواكبة لحاجة الأمة في مجالاتها المختلفة مثل السياسة، والدولة الإسلامية، والاقتصاد، والاجتماع، والإدارة، والقانون، والحقوق، والبيئة، والمرور، والعولمة، والإعلام، والحريات، والمستقبل، وعلم النفس، والسلام.
فالفقه الإسلامي ليس مبتوراً عن مقاصد الشريعة وروح الدين، وليس مجرد أحكام صورية قشرية لا معنى لها، وإنما هي أحكام لها رسالة في إقامة الحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الأبدي في الآخرة، تحققها من خلال الامتثال لأوامر الله تعالى وأوامر نبيه (ص) وامتداده الرباني أهل بيته الأطهار (ع).
|
|