ملحمة عيد الغدير.. رائعة الشعر العربي
|
*هادي الشمري
يا مليك الحياة أنزل عليّا
عزمةً منك تبعثُ الصخر حيا
جود كفيّك ان تشأ يملأ العيش نماءً ويفرش الجدب فيّا
يوقظ الورد فالربيع على التلّ ضحوكُ الالوانِ طلقُ المحيا
كلما افترّ برعمٌ داعبته
كفُ ريحٍ تقولُ للطيب هيّا
واهبَ النور والندى للروابي
أولني من جمالِ وجهكَ شيّا
طال في منقع العذاب مقامي
واستراح الشقاء في مقلتيا
بهذه الابيات يستهل الشاعر المسيحي اللبناني بولس سلامة ملحمتة الخالدة (عيدالغدير) وهو يستلهم العزم ويسأل الله ان يؤاتيه القوة فقد أقضّ مضجعه المرض واضناه السقام وطال مقامه على سرير المرض حتى صار ذلك السرير جزءاً منه!
فنسيت النهار من طول ليلي
أترى الليل شرعك الابديا؟
ان حظي من الحياة سريرٌ
صار مني فلم يعد خشبيا
ويطفح احساس الشاعر المستسلم للمرض بعد ان أوهى بدنه وشلّ حركته وانحل كيانه فألقى عليه ضلال الاسى والحزن. ولكن في خضم هذا اللون القاتم والجو المتشائم الكثيف من الحزن كانت هناك بارقة تنتشله من هذا الواقع البائس وتحلق به عالياً :
ياإلهي سدد خطاي فاني
قد تمرّست بالضلالة غيّا
بالعذاب الأمرّ طهّر فؤادي
فيعود الصلصال درّاً مضيا
عن مهاوي الآثام نزّه جناني
وعن المين والهوى شفتيا
في سبيل الكمال أجرِ يراعي
ملهم البثّ فيصلاً عربيا
كان هنالك إحساس يخالج نفسه، احساس رائع يهزّه من الاعماق، ويفيض على روحه الطمأنينة ويلهمها حقاً ويقينا. ويشيع في نفسه الرجاء والامل وهو يصارع الالم فراح يهتف:
هات ياشعر من عيونك واهتف
باسم من أشبع السباسب ريّا
باسم زين العصور بعد نبيٍّ
نوّر الشرق كوكبا هاشميا
باسم ليث الحجاز نسر البوادي
خير من هزّ في الوغى سمهريا
خير من جللّ الميادين غاراً
وانطوى زاهداً ومات أبيا
كان رب الكلام من بعد طه
وأخاه وصهره والوصيا
بطل السيف والتقى والسجايا
مارأت مثله الرماح كميا
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي
واخشعي انني اردت عليا
بهذه المقدمة التي عنونها الشاعر بـ(صلاة) يدخل ملحمتة الخالدة وهو يناجي علي بن ابي طالب عليه السلام، فهو يستلهم المعاني العظيمة والقيم المثلى لأقدس انسان عرفه الوجود بعد النبي الاعظم صلى الله عليه وآله.
لقد شُغف شاعرنا بشخصية الامام علي بن ابي طالب عليه السلام فملأت كيانه و وجدانه و روحه و ضميره فهام بهذا الكمال الانساني والذروة من الخلق البشري فاذا بقلمه يسكب هذا الوله شعراً يفصح فيه ما أفاضت عليه جوارحه حتى ليحسب القارئ انه يقرأ شعراً شعبياً لشاعر عاش في أجواء المجالس الشيعية وخالط علماءها وتغذى بفكرها. نعم، انه مسيحي وهو نظير المسلم في الخلق، كما قال امير المؤمنين عليه السلام: (الانسان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، ونظرته وهدفه يتوحد نحو القيم المثلى والاهداف العليا. انها غايات الانسان مثلما هي غايات الفئة والجماعة ويؤكد الشاعر ذلك في مقدمة ملحمته فيقول: (وربّ معترض قال: ما بال هذا المسيحي يتصدى لملحمة اسلامية بحتة؟ أجل انني مسيحي ولكن التاريخ مشاع للعالمين. اجل انني مسيحي ينظر من أفق رحب لا من كوة ضيقة، مسيحي يرى (الخلق كلهم عيال الله) ويرى ان(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، مسيحي ينحني امام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الارض ومغاربها خمساً كل يوم، رجل ليس في مواليد حواء اعظم منه شأناً وأبعد أثراً وأخلد ذكراً، رجل أطلّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا اظلها بلواء مجيد كتب عليه بأحرف من نور: (لا إله إلا الله، الله اكبر).
مزج الشاعر في هذه الملحمة بين التاريخ والادب فكوّن فيها صورة كاملة لاحداث ومواقف في التاريخ الاسلامي وقد أربت هذه الملحمة على الالف بيت واستغرق الوقت لكتابتها ستة أشهر تناول فيها الشاعر حياة العرب قبل الاسلام والتقاليد الجاهلية وعبادة الاصنام ونسب قريش ثم ذكر سيرة جدّي النبي صلى الله عليه وآله (هاشم) و(عبد المطلب) وبيان مآثرهما وشرفهما، كما تطرق الى حسد أمية وحرب لهما وحقدهما عليهما، ثم يختم هذا الفصل بأحدى كرامات عبد المطلب يفرد لها قطعة كاملة بعنوان (صلاة الاستسقاء) ثم يدخل التاريخ الاسلامي مبتدأً بولادة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وبداية صفحة مشرقة في التاريخ بـ(مولد محمد) وكفالة (ابي طالب) له وحمايته وهو يدعو الناس الى الاسلام بعد البعثة الشريفة وبعدها يستعرض (مولد علي) في الكعبة المشرفة وبداية (فجر الاسلام) الذي شعّ على الجزيرة العربية.
بعدها تناول (هجرة الرسول) و (هجرة علي) عليهما السلام فينتقل بالاحداث الى (يثرب) ثم تتسلسل الاحداث (بدر)، (زواج علي عليه السلام)، (اُحد)، (الخندق)، (خيبر) وغيرها من المشاهد حتى (حُنين) آخر معركة خاضها علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله، وقد أفرد لكل هذه العناوين ـ بين القوسين ـ قصائد تضمّنت الكثير من الاحداث والمواقف واستعرض كذلك الدور البطولي للامام علي عليه السلام في نصرة الدين وجهاده في ارساء دعائم الاسلام.
ثم استعرض احاديث الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله في حق الامام علي عليه السلام واهل البيت عليهم السلام باطار شعري في فصل كامل عنونه بـ(اهل البيت) ويخص (يوم الغدير) بفصل خاص تحدّث فيه عن كل الاحداث التي رافقت ذلك اليوم المشهود ثم يسترسل في ملحمته بعد يوم الغدير من (وفاة النبي) الاعظم صلى الله عليه وآله وحتى استشهاد الامام الحسين عليه السلام في كربلاء بأسلوب السرد القصصي الشعري الملحمي وقد اعتمد الشاعر في ذكر اغلب الاحداث التاريخية على المصادر السنية، كما يقول: (ولما عزمت على النظم انصرفت الى درس المراجع التاريخية ولكنني - قطعاً للظن والشبهات- قلّما اعتمدت مؤرخي الشيعة بل الثقات من اهل السنة الذين عصمهم الله من فتنة الامويين وتقيدت بالتاريخ جهد الاستطاعة).
وفضلاً عن التاريخ فقد تصدى الشاعر في ملحمته بعض القضايا الفكرية وفي صدد حديثه عن الملحمة يقول: (قد يقول قائل، ولم آثرت علياً دون سواه بهذه الملحمة؟ ولا اجيب على هذا السؤال إلاّ بكلمات... فالملحمة كلها جواب عليه وسترى في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: (رضي الله عنه وكرم وجهه وعليه السلام) ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمة ويخشعون لتقواه، ويتمثل به الزهاد في الصوامع فيزدادون زهداً، وقنوتا وينظر اليه المفكر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء ويتطلع اليه الكاتب الألمعي فيأتم ببيانه، ويعتمده الفقيه والعالم المدره فيسترشد باحكامه. اما في ختام مقدمته فيقول: (حقاً ان البيان ليسف وان شعري لحصاة في ساحلك يا أمير الكلام ولكنها حصاة مخضوبة بدم الحسين الغالي فتقبل هذه الملحمة وانظر من رفارف الخلد الى عاجز شرّف قلمه بذكرك).
التزم الشاعر في ملحمته بحراً واحداً وهو الخفيف ولكنه تنّوع في الروي فاعتمد على عدة قوافٍ ووحّد قافيتيه في قصيدتي المقدمة والختام وهذا ما اعطاها اسلوباً فنياً ووحدة متماسكة شكلاً ومضموناً كما جعل للقصائد هامشا ً في الرجوع الى الحوادث التاريخية من مصادرها.
ان ما يبهر القارئ لهذه الملحمة هو القدرة على التسلسل في الحوادث بالسرد القصصي الشعري والتضمين البديع للآيات الكريمة والاحاديث الشريفة داخل الاطار الشعري وقد اجاد الشاعر في تسمية الملحمة بـ(عيدالغدير) فهوالمحور الذي دارت عليه احداث الملحمة فقد مهّد لهذا الفصل الذي سبقه فذكر فضائل الامام علي عليه السلام ثم استعرض الكثير من احاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في حقه عليه السلام حتى توّجها بحديثه يوم الغدير (من كنت مولاه فعلي مولاه) فيبدأ هذا الفصل برجوع النبي صلى الله عليه وآله مع اصحابه من حجة الوداع وبعد ان يصف ذلك اليوم يقول:
جاء جبريل قائلاً: يانبي الله بلغ كلام رب مجير
انت في عصمة من الناس بيّنات السماء للجمهور
واذاعها رسالة الله وحياً
سرمدياً وحجةً للعصور
ثم يستعرض اهم الامور التي جاءت في خطبة النبي صلى الله عليه وآله في ذلك اليوم حتى يصل الى قوله:
ثم اني وليكم منذ كان الدهر طفلاًُ حتى زوال الدهور
يا إلهي من كنت مولاه حقاً
فعليٌ مولاه غير نكير
يا إلهي وال الذين يوالون ابن عمي وانصر حليف نصيرِ
كن عدواً لمن يعاديه واخذل
كل نكسٍ وخاذل شرير
قالها آخذاً بضبع علي
رافعاً ساعد الهمام الهصور
ويسترسل في هذا الفصل بذكر مبايعة الصحابة للامام علي عليه السلام بأمرة المؤمنين مركزاً على اسماء كان لها شأن آخر بعد هذا اليوم.
اما في الخاتمة فيستدر الشاعر الشفقة والعطف من الله باسم الامام علي عليه السلام:
يا إله الاكوان اشفق عليّا
لاتمُتني غبّ العذاب شقيا
أولني أجر عاملٍ في صعيد الخير
يبغي ثوابك الأبديا
مصدر الحق لم أقل غير حق
أنت أجريته على شفتيا
انت الهمتني مديح عليّ
فهمى غيدق البيان عليا
هكذا كان صهر أحمد يضفي
نبله ملء سرحة الدهر فيا
هو فخر التاريخ لا فخر شعب
يدّعيه ويصطفيه وليا
لاتقل شيعةً هواة عليٍ
ان في كل منصف شيعيا
وتستبد الآلام بالشاعر يتلوى على فراشه فيتأسى بالحسين:
أتأسّى بالاكرمين خصالاً
لم يسيغوا في العمر شرباً مريّاً
بالذي باكر الشهادة بدريا
وأعلى اكليلها الكوفيا
بجراح الحسين في كل جرح
يجد الصبر كهفه الازليا
ويجد في اسم علي البلسم الشافي لآلامه واوجاعه فيعود الى مناجاته ليقول:
يا أمير السلام حسبي فخراً
انني منك مالئ أصغريا
جلجل الحق في المسيحي حتى
عدّ من فرط حبه علويا
فإذا لم يكن علي نبياً
فلقد كان خلقه نبويا
ياسماء اشهدي وياأرض قرّي
واخشعي أنني اردت عليا
|
|