السرقة الأدبية في الميزان
|
*منذر الخفاجي
يقول ابن طباطبا العلوي في كتابه (عيار الشعر): (ان تناول المعاني المسبوقة ليس سرقة وإنما هو أخذ لا يُعاب)، ويقول الجرجاني في (اسرار البلاغة): (واما الاتفاق في عموم الفرصة فيكون الاشتراك فيه داخلاً في الاخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة. ويقول ابن رشيق القيرواني في (العمدة): (فالشاعران إذا ركبا معنى، كان أولاهما به أقدمهما موتاً واعلاهما سناً). ويقيس ابن وكيع في (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي)، المعنى المشترك بمقاييس أدبية في ترجيح احد الشاعرين اللذين اشتركا في معنى واحد فيقول: (فاذا حلاها النظم نسبت الى السارق واستحقت على السابق، والمعنى اللطيف في اللفظ الشريف كالحسناء الحالية فقد استوفى بالنظام غاية الحسن والتمام وقد فاز قائلها بالحظين واستولى على الفضلين فلا يشركه السارق في فضيلته ولا البارع في براعته).
اما الآمدي في (الموازنة) فيرى ان الباحثين في السرقات قد اضطربت آراؤهم ومقاييسهم حول معنى السرقة فيرى: (ان خلط الخاص من المعاني بالمشترك بين الناس مما لا يكون مثله مسروقاً و... ان ذلك شائع في كل امة وفي كل لسان). ويشير الجاحظ باشارات عميقة موحية في كتابه (الحيوان) الى ابعاد هذا الموضوع ويصنف الصورة الى بديع ومخترع واستعانة واستمداد.
هذه ابرز الآراء لابرز النقاد القدامى حول معنى السرقة الادبية التي أثيرت كثيراً في القرن الرابع الهجري، ولعل من أهم اسباب إثارتها من قبل النقاد والشعراء معاً هو وجود المتنبي الذي شغل شعره حيزاً كبيراً من اهتمام هؤلاء وخاضوا المعارك الادبية التي دارت حوله، وهم مابين مادح وقادح ومتهم ومدافع كما كانت تدار قبله الخصومات الادبية حول ابي تمام والبحتري، وقد تتبع النقاد السرقات الادبية لانها مقياس قدرة الشاعر ومدى اصالته وابتكاره أو تقليده واتباعه، كما سعت الدراسات الادبية الى تبيين ذاتية الشاعر ومقدار اتكائه على الماضي وما قدمت شاعريته من جديد.
وقد تميز الادب العربي بكشف السرقات الادبية اكثر من غيره من شعر الامم الاخرى لان غالبيته أدب جزئيات، يعني بالبيت والبيتين ورغم ان هذا الموضوع قد أخذ موقعه في تاريخ النقد الادبي كمبحث من مباحثه وارتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الادب ومضمونه، إلاّ ان النقاد والباحثين لم يتفقوا على مفهوم محدد للسرقة الادبية كما بينت الآراء التي عرضناها في المقدمة.
وقبل الخوض في هذه الآراء ومدى مقاربتها للحقيقة لابد من ايضاح أمرين مهمين اغفلهما النقاد رغم اهميتهما:
الامر الاول: ان الناقد القديم لم يأخذ في الاعتبار في هذا الموضوع (التلمذة الادبية) التي كانت معروفة عند الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى اصبحت ظاهرة في الادب إذ أن كل شاعر هو بصورة ما امتداد لقديم بشكل من الاشكال حتى يحدد استقلاليته، فلا بد لأية دراسة ان ترصد خط التطور الفني للشاعر وان تقف وقفة نقدية تحليلة عند مراحل السلاخة من ربقة التقليد واستغنائه عن التعلق بغيره، فقد اتكأ الشعراء على تقليد الشعر الجاهلي والاستمداد من صوره ومعانيه واساليبه في بداية امرهم ثم عمدوا الى التحوير في الصور، ومن ثم استقلوا بشاعريتهم وهذه هي مراحل طبيعية يمر بها الشاعر عن طريق اللاوعي، بعد أن ترسبت الصورة والمعنى الذي تأثر به في ذهنه ثم جاءت مناسبتها فظهرت في شعره دون قصد الى سرقة او اغتصاب.
الامر الثاني: فهو الجانب النفسي، اذ تحكمت الاهواء النفسية في النقاد مما أدى الى اطلاق احكامهم على الشعراء بتناقض كبير ويظهر ذلك جلياً في التفاوت في نظراتهم الى معنى السرقة الادبية في المقدمة و وصل هذا التفاوت مداه الى حد اطلاق الرأيين المتناقضين من قبل الناقد الواحد فنرى الجرجاني يقول: (ومتى انصفت علمت ان أهل عصرنا ثم العصر الذي بعدنا اقرب فيه الى المعذرة وأبعد من المذمة لأن من تقدمنا قد استغرق المعاني وسبق اليها واتى على معظمها). ثم ينفي السرقة اطلاقاً في المعاني ايضاً فيراها: (عامة يشترك في ادراكها بداهة الناس جميعاً مثل حسن الشمس والقمر ومضاء السيف وبلادة الحمار و وجود الغيث وحيرة المخبول و.. وهي تشبيهات سبق اليها اصحابها ثم تداولت من بعد واستفاضت حتى لحقت بالعام المشترك، كما يشاهد ذلك في تمثيل الطلل بالكتاب، او البرد والفتاة بالغزال في جيدها وعينيها، والمهاة في حسنها وصفائها. والتفاضل هنا انما يحدث بالتحوير والتفنن فيه). وهذا القول مناقض تماما لقوله الذي عرضناه في المقدمة والذي لايفرق فيه بين الاخذ والاستعانة والاستمداد والسرقة!!
اما ابن طباطبا فهو لايسمي تناول المعاني المسبوقة سرقة بل أخذاً ويشرح ذلك بطرقة ذكية تدور حول محور التحوير فهو يرى: (انه اذا تناول الشاعر المعاني التي سبق اليها فابرزها في احسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجب له فضل لطفه واحسانه فيه)، ثم يشرح ذلك شرحاً مفصلاً وخلاصة رأيه ان التحوير الادبي هو اخفاء معالم الاخذ. ومثلما انشغل الجرجاني بالمتنبي فقد انشغل الآمدي بأبي تمام والبحتري لذا فقد خاض مشكلة السرقات الادبية ورغم انها عنده من المساوئ إلاّ انه في بعض الاحيان لايعدها عيباً، وهذا التطرف الادبي جعل آراءه متذبذبة حول هذا المعنى، فقد كان يميل الى البحتري ويصب اهتمامه في تخريج سرقات أبي تمام وتبلغ قمة هذا التعصب الادبي على ابي تمام عند السجستاني بقوله عن ابي تمام: (انه ليس له معنى انفرد به فاخترعه) ثم يظهر من يتعص لابي تمام على البحتري وهو بشر بن تميم الكاتب الذي يتعقب ما اخذه البحتري من معاني ابي تمام وقد أدى به تعصبه هذا الى خلط ما ليس في المعنيين من تناسب وتقارب في موضوع السرقة.
ويؤلف الصاحب بن عباد رسالة عنوانها: (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي) ورغم ان الصاحب كان شغل الشعراء في وقته إلاّ انه شغل بالمتنبي وتتبع عليه سقطاته ومثله فعل ابن وكيع التنيسي المصري الذي ألّف (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي)، وفي هذا الكتاب جاء بالمتناقضات العجيبة التي يطول الكلام عنها. ويعقد ابو هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) باباً للسرقات عدّه من اصل مباحثه فهو مبدئياً لا يعد السرقة من المعايب ولكنه يفرق بين انواع السرقة فمنها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح، فالحسن ما يجري مجرى التحوير - كما في رأي ابن طباطبا- والقبيح: (ان تعمد الى المعنى فتتناوله بلفظه كله او اكثره او تخرجه في معرض مستهجن)، ويخوض الثعالبي هذا البحث في كتابه (يتيمة الدهر) فنراه يكشف عن ان المتحاملين على المتنبي انما يصدرون في ذلك عن اهواء، ويعقد في ذلك فصلاً بعنوان: (انموذج لسرقات الشعراء منه) ـ اي المتنبي ـ ولم تخلُ موازناته من احكام تطرفية وكذلك فعل ابو سعيد العمري ولكن بعكس الثعالبي إذ وصف المتنبي بقوله: (يغير على ديواني الطائيين - يقصد ابا تمام والبحتري- ويميز ابن الرومي) والناس (يغضون عن معائبه ويغطون عن مساويه ومثالبه). و قد لعبت الاهواء النفسية دورها في ما كتب عن المتنبي في هذا الموضوع، ورغم ذلك فقد اعطت هذه الآراء للبحث حيوية واثرته بقيمة واقعية.
وبعد استعراضنا لأهم الآراء في معنى السرقة لابد من ان نتبين اقرب هذه الآراء الى الحقيقة ونجد في رأي ابن طباطبا الاقرب الى الصواب وهو ما يسمى عند النقاد المحدثين بـ (الحسّ التاريخي) حيث يشكل موروث الشاعر خلفية ثرية بالتجارب والخبرات والقيم والدلاللات. وتأتي طريقة الشاعر في التعامل مع هذا الموروث لتحسم اصالته من اتباعه، فالشاعر الاصيل هو الذي يستطيع صهر الالفاظ والتراكيب والصور، اما الشاعر المتّبع فهو الذي يتسلم الموروث كتركة ثقيلة ويتعامل معه مباشرة، وسوءاً في التقليد والمحاكاة ومن ثم الاتباع كلياً، وقد سادت هذه النزعة الكثير من الشعراء فشكلوا مرحلة سُميت بمرحلة الجمود والانحطاط.
|
|