رائد الحركة الدستورية في ايران
الشيخ النائيني .. الثورة على الجهل والاستبداد
|
*خالد ضياء الدين
من يروم مطالعة ومراجعة أول تجربة دستورية في العالم الاسلامي والتي حصلت في ايران 1905، يجد ان عليه ايضاً مطالعة نظرية الشيخ النائيني في اقامة نظام الحكم القائم على الدستور والقانون تحت ظل التعاليم الاسلامية. وهذه بالحقيقة تُعد قفزة نوعية باهرة وتاريخية في الفكر الاسلامي وتحديداً في الفكر الشيعي، فهو معروف بمعارضته للسلطة وأنظمة الحكم لأنها مارقة عن الدين وتعاليمه وبعيدة عن القرآن الكريم والسنة الشريفة، ترجمان هذا الدين الحنيف، إلا ان المرجع الديني الراحل الشيخ محمد حسين النائيني، وفي ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية غاية في التعقيد عاشتها ايران مطلع القرن الماضي، تقدم خطوة شجاعة الى الامام وطرح نظرية الحكم الدستوري أو مايسمى اليوم (الديمقراطي) ليكون وسيلة لادارة شؤون البلاد الاسلامية، ويمثل هذا الطرح في كتابه (نتبيه الأمة وتنزية الملّة).
*في الحوزة العلمية*
ولد مرجعنا الراحل الشيخ محمّد حسين ابن الشيخ عبد الرحيم الغروي النائيني. في الخامس والعشرين من ذي القعدة 1276? بمدينة نائين في محافظة فإصفهان وسط إيران. درس (قدس سره) مقدمات العلوم الدينية في مدينته (نائين)، وفي أوائل بلوغه سافر إلى إصفهان لإكمال دراسته هناك، ثمّ سافر إلى سامرّاء المقدّسة عام 1303? للتتلمذ على يد أُستاذه المرجع الديني الراحل الميرزا حسن الشيرازي الذي كان حينها زعيم الحوزة العلمية، وفي عام 1314? بعد وفاة أُستاذه الشيرازي بسنتين سافر إلى كربلاء المقدّسة وبقي فيها سنتين، ثمّ انتقل إلى النجف الأشرف عازماً على الإقامة بها للتدريس والتحقيق.
تميّز مرجعنا الراحل (قدس سره) عن أقرانه وعلماء عصره بمكانته العلمية الخاصّة بينهم، فلم تكن حلقة درسه كباقي الحلقات التي يقتصر دورها على ربط الماضي بالحاضر، ونقل نتاج الماضين إلى المعاصرين، وإنّما كان حلقة مشعّة، مازال شعاعها متواصلاً ومتوهّجاً في الدراسة الحوزوية التخصّصية.
وما تزال آراؤه ونظرياته تتداولها الأوساط العلمية، وتهيمن بقوّة على الفكر الأُصولي في مرحلته المعاصرة، ويُعبّر عنها باسم (مدرسة النائيني)، بحيث يُعدّ التطرّق لرأي الشيخ النائيني في مسألة ما ومعالجته سلباً أو إيجاباً ضرورة علمية، ولم يكن المحقّق الشيخ آقا بزرك الطهراني مبالغاً حينما قال فيه: (أمّا هو في الأُصول فأمر عظيم؛ لأنّه أحاط بكلّياته، ودقّقه تدقيقاً مدهشاً، وأتقنه إتقاناً غريباً، وقد رنّ الفضاء بأقواله ونظرياته العميقة، كما انطبعت أفكار أكثر المعاصرين بطابع خاصّ من آرائه، حتّى عُدّ مُجدّداً في هذا العلم).
ومن صفاته وأخلاقه انه كان (قدس سره) ذا نفسية قدسية كبيرة، وخُلق رفيع، ووقار منقطع النظير، وهيبة فائقة، وكان على درجة عالية من الانقطاع إلى الله تعالى، والفناء في ذاته، وعدم التمالك في أداء المسؤوليات الشرعية، حتّى قال عنه الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء: (كانت كلّ أحواله وأعماله وعلومه تدلّ على نفس كبيرة ذات قدسية كريمة، قليلة النظير أو معدومة المثيل). وقال عنه الشيخ آقا بزرك الطهراني: (كان إذا وقف للصلاة ارتعدت فرائصه، وابتلّت لحيته من دموع عينيه).
أما مسيرته في التدريس، فقد ألقى (قدس سره) دروسه في الأُصول ثلاث دورات كاملة، استغرقت كلّ دورة سبع سنين، كما وألقى دروسه في فقه المكاسب في دورتين توسّطهما محاضراته في فقه الصلاة. ومن ابرز تلامذته؛ السيّد محسن الطباطبائي الحكيم، السيّد محمّد حسين القاضي الطباطبائي، السيّد أبو القاسم الخوئي، الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني، السيّد محمّد هادي الحسيني الميلاني، السيّد محمود الحسيني الشاهرودي، السيّد حسن الموسوي البجنوردي، السيّد محمّد الحجّة الكوهكمري، الشيخ محمّد تقي الآملي، الشيخ علي محمّد البروجردي، الشيخ محمّد باقر الأشتياني، الشيخ محمّد رضا المظفّر.
برز اسم الشيخ النائيني مرجعاً دينياً في الفتوى والتقليد بعد وفاة الشيخ فتح الله الإصفهاني المعروف بشيخ الشريعة، فرجع إليه الناس في التقليد.
*التجربة (الديمقراطية)
في اواخر عهد الأسرة الملكية القاجارية في إيران، وصلت البلاد الى حدٍ لا يطاق من كبت الحريات والقسوة والظلم والاستبداد، لذا كان المجتمع الايراني لاسيما الشريحة المتوسطة في المجتمع التي يعوّل عليها دائماً في أي تغيير بنظام الحكم، تقف على صفيح ساخن وتترقب أي صوت او مبادرة لكبح جماح الحاكم المتمثل بـ (الشاه) ولجم سلوكه السلطوي الجائر وتحديد صلاحياته السياسية والادارية، وجاء في كتاب (تاريخ الحركة الدستورية في ايران) فأن الحركة الدستورية والمطالبة بتقييد صلاحيات الملك بالقانون إنما بدأت بعد أن قام علاء الدولة حاكم طهران بتعزير أحد التجار بـ(الفلقة) لأنه باع السكر بسعر أعلى من التسعيرة. ولكن نظراً لوجود بعض العلاقات بين عدد من علماء الدين وبين البلاط فان هذه الفكرة تحولت الى نقطة نزاع وصراع مرير أريقت خلاله الدماء وانتهكت الحرمات، لأن هذا البعض من علماء الدين وصف التجربة الدستوية او الديمقراطية بمنزلة التهديد لتعاليم الدين الاسلامي. وفي هذا المعترك طرح الشيخ النائيني نظريته في التقريب بين مبادئ ومبادئ الحكومة الشعبية، ولكنه في نفس الوقت هاجم مبدأ (طاعة السلطان) لكونه أحد أركان النظام الاستبدادي الممقوت وأشار إلى التزلف والعبودية للمتجبرين على انه في حد الشرك بالله وبمنزلة الوثنية وعبادة الأصنام.
يقسم العلامة النائيني الحكومات إلى نوعين، الحكومات الاستبدادية والحكومات الدستورية ثم يناقش ركائز النظام الاستبدادي ويعالج علاقته بمبادئ الدين والالتزام فيضع له سبع مميزات، أهمها:
أولاً: مفاسد الجهل
بما إن الإنسان قد جبل مختاراً، فلذلك يعتبر العلم شرطاً أساسياً وبديهياً للاستفادة من هذه القدرة والملكة في جميع المجالات ومن جملتها حياته السياسية، لذلك يرى العلامة النائيني بأنه ما دامت الأمة تجهل مسؤوليات السلطة وحقوقها السياسية ولا تعلم ما يترتب على ذلك الجهل من مفاسد واضرار فان الاستبداد سيبقى وسيفرض المستبدون أنفسهم عليها بالقوة وسوف لا تنفع معها جميع المعالجات.
ويستعرض العلامة النائيني عامل الجهل في كتابه تنبيه الأمة باعتباره جذر شجرة الاستبداد الخبيثة الذي يمدها بالحياة وهو الأساس الذي تستند إليه سائر العوامل الهدامة الأخرى وروحها التي تسري في اوصالها، (إن جهل الأمة بمسؤوليات السلطة وحقوقها السياسية والمدنية هو اصل وأساس وروح جميع العوامل التي تفتك بالأمة).
ثانياً: استغلال الدين
يعتبر العلامة النائيني استغلال الدين لتحقيق بعض المآرب الدنيوية، الخاصية الثانية المهمة للنظام الاستبدادي ويصف ذلك بأنه أحد النتائج الطبيعية الحتمية لجهل الأمة المركب، فهو يهاجم علماء السوء الذين يستغلون جهل الأمة بضروريات واستحقاقات دينها ومبادئه السامية ويدعونهم إلى الطاعة العمياء للسلطان ويعمدون إلى تشويه مبادئ الدين الحنيف بتوظيف الدين لتبرير أعمال وجرائم الحكام المستبدين في القتل والنهب ومصادرة الحريات الأساسية للأمة.
وهنا يكتب النائيني: إن هؤلاء لم يجدوا ذريعة يتذرعون بها في تبرير دفاعهم عن شجرة الظلم والاستبداد الخبيثة وإحكام سيطرتهم على رقاب العباد واستهتارهم بالأموال سوى شعار الدفاع عن مبادئ الدين الحنيف وبذلك اصبحوا شركاء لطواغيت وفراعنة إيران ومكنوهم من العيث فساداً وان يفعلوا ما فعلوا. ويرى العلامة النائيني بأن الأمراض والأدواء المستعصية كالجهل والأمية المستشرية في الأمة تحت تأثير طبيعة النظم الاستبدادية ترجع بأجمعها إلى ثقافة (تقديس السلطان) أو (عبادة الملوك) التي توغلت في نفوس أبناء الأمة حتى غدت وكأنها من جملة طبائعهم التي قد جبلهم الله عليها، علماً بأن مبادئ الشريعة المقدسة وضروريات الدين الإسلامي تؤكد حرمة التعاون مع الحكام الغاصبين واعانة الطواغيت والظلمة، إلا أن بعض رجال الدين يتشبثون بالمغالطات في دفاعهم عنهم ويصورون ذلك دفاعا عن الدين، وهم في الواقع إنما يبيعون أنفسهم ويشوهون مبادئ الدين الحنيف ويروجون الصنمية وعبادة الأوثان من حيث لا يشعرون.
رابعاً: التمايز الطبقي
تغذي الأنظمة الاستبدادية الاختلافات الطبقية في أوساط الأمة وهو ما يعد أحد مميزاتها وخصائصها كنتيجة حتمية لوجود العوامل الثلاثة المذكورة آنفاً، ويستدل العلامة النائيني بهذه الآية المباركة "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ" ويقول: (لقد فسر المفسرون كلمة (شيعاً) بأنهم متفرقون والآية الكريمة تعزو سبب هذا الاختلاف والتفرق إلى وجود نظام مستبد يتربع على عرشه فرعون الذي ادعى الالوهية والربوبية وهو ما يبدو واضحا في سياق الآية).
خامساً: إشاعة ثقافة و منطق القوة
يتطبع أبناء الأمة بطابع منطق القوة في ظل الأنظمة الاستبدادية طبقاً لقاعدة (الناس على دين ملوكهم) ويصبح سلوكاً يومياً تمارسه عامة الناس بكافة شرائحهم ويسعى كل فرد منهم لاستغلال موقعه ومنصبه في التعامل بفوقية واستعلاء مع موظفيه ومن هم دونه كانعكاس اسقاطي لتعامل مسؤولي السلطة الاستبدادية ومدرائه معه. يقول النائيني في هذا الصدد: (عند هبوب أولى نسائم الحرية والعدالة على إيران مع بدايات الحركة الدستورية كان البعض يتصور أنها سوف لن تأتي عليهم وأنها تختص بالحكام والمتصدين للسلطة فقط لذلك بذلت جميع الطبقات من المعممين المتجلببين بجلباب الدين والاقطاعيين والمتنفذين قصارى جهودها في سبيل إقامة وترسيخ الأسس الجديدة ودعمت الحركة الدستورية لأنها توقعت أن الموت سيطال الجيران فقط -كما يقول المثل الايراني- حتى إذا انكشفت الحقيقة وسطع نور الشمس انقلبوا على أعقابهم وشنوا هجوماً عليها تحت شعارات مختلفة، فالاستبداد الديني صوّب حرابه للحركة الدستورية من منطلق الحفاظ على مبادئ الدين الحنيف والدفاع عنه أما جلاوزة السلطان فقد تشبثوا بالشعارات الوطنية وحب الوطن في هجومهم الخبيث وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر المحتالين والمنافقين، فكل قد شهر السلاح الذي يجيد استخدامه من اجل محاربة الحركة الدستورية حفاظاً على مصالحهم الخاصة، وعادت الحالة إلى أن (نكثت طائفة وفسقت أخرى ومرق آخرون) لترسم ابعاد الوضع القائم آنذاك).
خطر الاسلام على السلعة الغربية
بعد ان استعرضنا بشكل موجز ملامح نظرية الشيخ النائيني في (الحكم الدستوري) وتحديد صلاحيات الملك او الحاكم، لابد ان نشير هنا الى ان (التجربة الديمقراطية) الفتية في ايران لم تكن نبتة ايرانية بالحقيقة، إنما جاءت على شكل (نسائم) من الغرب من خلال الثقافات العادات التي دخلت ايران اواخر القرن التاسع عشر، وكان رائد هذه الحركة التغريبية في ايران هو الملك القاجاري (ناصر الدين شاه) الذي عرف بعلاقته الوطيدة بالغرب وبرحلاته العديدة الى اوربا. وعليه عندما نسمع ونقرأ بالمعارضة لافكار النائيني التوفيقية بين الاسلام والديمقراطية، فانما هي اصوات قلق وخوف من اذناب الغرب من انصاف المثقفين في ايران، لأن في حال نجاح هذه التجربة، فانهم سيواجهون نظام حكم اسلامي يطبق مفاهيم ومبادئ معمول بها في الغرب، حينها لن يكون ثمة مجال او مكان لهم في المجتمع إلا ان يطبق تعاليم الاسلام.
وعلى هذا الطريق دفع علماء دين كبار سمعتهم وماء وجههم وحتى ارواحهم لمواجهة هذه الهجمة الشرسة من قبل ليس اعداء الديمقراطية وتأسيس النظام البرلماني، إنما من اعداء الدين والمتخوفين من ظهور الاسلام في اطار نظام حكم تقبله الملايين من الناس. فقد نجحت (ثورة الدستور) في ايران عام 1905 وتم تحديد صلاحيات الملك واصبح لايران برلمان ونواب منتخبون يضعون التشريعات والقوانين، ولو ان التجربة آنذاك كانت متواضعة، شابها الكثير من اللغط والتناقض، وشهدت صراعات محتدمة بين انصار الديمقراطية الغربية والحريصين على الهوية الوطنية والدينية لايران.
هذه التجربة الغنية والكبيرة، كلفت ايران والاسلام ثمناً باهضاً، فقد توفي الميرزا محمد كاظم الاخوند الخراساني الذي كان في طليعة مراجع الدين المطالبين بالحكم الدستوري القائم على الشريعة الاسلامية، وذلك في ظروف غامضة في مدينة مشهد بعد فترة وجيزة من انتهاء الأزمة الدستورية في طهران، وبعده أقتيد الشيخ فضل الله النوري أحد ابرز علماء الدين في طهران الى حبل المشنقة لاعدامه بتهمة المعاداة للديمقراطية ونصرة الديكتاتورية! ولم تتوقف المسيرة، فخلال الحياة البرلمانية في ايران وفي أواخر الحكم القاجاري المتداعي وظهور شخصية عسكرية دموية باسم (رضا خان) الذي تحول الى (شاه) فيما بعد بأمر من البريطانيين، دبّر مكيدة لاغتيال السيد حسن المدرس النائب في مجلس الشورى لاصراره على فضح الاساليب الديكتاتورية والقمعية التي يمارسها (رضا خان)، وكذلك فضح كل خيوط العمالة البريطانية في نظام الحكم آنذاك. وكان بحق يمثل النائب الصادق والمخلص لشعبه ولدينه ووطنه.
أما مرجعنا الراحل فقد تُوفّي في السادس والعشرين من جمادى الأُولى 1355? بالنجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني، ودُفن في الصحن الحيدري للإمام علي(عليه السلام).
|
|