التلمذة
في الشعر العربي
|
منذر الخفاجي
التلمذة الشعرية ظاهرة قديمة في الشعر العربي تمتد جذورها الى الشعر الجاهلي حيث نجد مدرسة شعرية قائمة رأسها أوس بن حجر ولها تقاليدها الفنية، وطريقتها في نظم الشعر وتنقيحه. ويذهب الدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي (ص354) الى أن تلامذة أوس (لم يكتفوا بتقليده واقتفاء أثره، بل استعاروا طائفة من المعاني والألفاظ إستعارة ظاهرة لا تحتمل شكاً، حتى لكأن هذه المعاني والألفاظ كانت قد أصبحت خطاً شائعاً للمدرسة كلها).
وكان زهير بن أبي سلمى تلميذ أوس شاعراً يروي الشعر ويعلّمه أيضاً وقد وضع ابنه وتلميذه كعباً – صاحب قصيدة (بانت سعاد) المشهورة – أمام امتحان عسير ليختبر شاعريته وتمكنه منها وفي هذا الأمر قصص كثيرة تروى عن هذه الشاعرية وتقدير الأب الشاعر لتلمذة الأبن ونجاحه.
وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (ج7 ص73) الى هذه المدرسة الشعرية التي امتدت أصولها الى العصرين الأموي والعباسي في حديثه عن جميل بن معمر الشاعر – جميل بثينة – حيث قال: (وجميل شاعر فصيح مقدَّم جامع للشعر كان راوية لهدبة بن خشرم، وكان هدبة شاعراً راوية للحطيئة، وكان الحطيئة شاعراً راوية لزهير وابنه) وجاء كثير عزة تلميذ جميل يؤكد هذه التلمذة رغم اختلافها في التوجهات والأغراض في شعرهما وقد عرف عن كثير أنه إذا أنشد شعراً بدأ بجميل وأنشد له ثم أنشد لنفسه (وكان يفضله ويتخذه إماماً) كما يقول ابو الفرج في الأغاني (ج7 ص73).
وقد أشار الدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي (ص 368-369) (الى انقطاع سلسلة التلمذة في هذه المدرسة الشعرية عن طريق القرابة والنسب واتصالها عن طريق الرواية والتلمذة موصولة بالحطيئة وجميل وكثير وممتدة الى العصر العباسي).
وتبدو هذه التلمذة الشعرية اكثر وضوحاً في العصر العباسي وقد تداولت كتب التراجم والأدب أخبار هذه التلمذة وانواعها رغم اختلاف مسلك التلميذ والاستاذ. وقد عرف سلم الخاسر شاعراً من المطبوعين المجيدين وكان تلميذاً لبشار ابن برد ولكنه يقدم أبا العتاهية عليه ويميل الى البساطة والتخفف من الفن عند بشار، كما تلمذ ابو نؤاس لوالبة بن الحباب الذي عرف بالمجون والخلاعة واصبح ابو نؤاس صاحب مذهب في الشعر والحياة وكانت تلمذة البحتري لأبي تمام من أكثر الظواهر الفنية التي نالت اهتماماً ومناقشة وموازنة واختلف النقاد في تقدير التلمذة وتفوق التلميذ على الاستاذ أو الاستاذ على التلميذ واعيدت قضايا التلمذة الشعرية القديمة لتكون حكماً في المفاضلة بين الشاعرين. وقد احتج صاحب البحتري على صاحب أبي تمام بتفوق كثير في شاعريته على جميل رغم أنه اخذ من جميل وتلمذ له كا اعيدت أقوال البحتري في اعترافه بفضل استاذه ابي تمام وقوله بأنه: (تابع له لائذ به آخذ منه) وقال ابو بكر الصولي معقباً على رأي البحتري: (وهذا من مفضل البحتري أن يعرف الحق ويقر به ويذعن له وإني لأراه يتبع أبا تمام ومعانيه حتىيستعير مع ذلك بعض لفظه فلا يقع إلا دونه) إلا أن الصولي إلتفت الى السرقات الشعرية واقتباس البحتري من أبي تمام في المعاني وينقل لنا الصولي في اخبار البحتري (ص58-60) خبراً طريفاً عن هذه التلمذة وعن اعتراف البحتري باقتفائه اسلوب ابي تمام فيقول: (وحدثنا ابو الحسن علي بن محمد الانباري قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني ابو تمام يوماً لنفسه (ويذكر وصفاً لفرس) قال فيها:
فلو تراه مشبحاً والحصى رمضٌ بين السنابكِ من مثنىً ووحدانِ
أيقنتُ إن لم تثبّت أن حافره من صخرِ تدمرَ أو من وجه عثمانِ
ثم قال لي: ما هذا الشعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا المستطرد، أو الاستطراد، قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يرى أنه يريد وصف الفرس وهو يريد وجه عثمان. قال الصولي: فاحتذى البحتري هذا القول في قوله:
ما إن يُعافُ قذىً وإن أوردته يوماً خلائقَ حمدويةِ الأحوالِ
وقيل للبحتري احتذيت في شعرك هذا ما احتذاه ابو تمام وقد عيب هذا عليك، فقال: أُلام على تبعي لأبي تمام؟! ما عملت بيتاً قط حتى أُخطر ببالي شعره وانا اسقط البيت من قصيدة ويبدو لنا أن البحتري نهج درب استاذه وسار على اسلوبه ولم يكرر معانيه وألفاظه رغم تأكيده على هذه التلمذة إلا أن البحتري يؤكد ايضاً أفتراقه عن اسلوب أبي تمام في صنعته ويقول: (هو أغوص على المعاني وأنا أقوم بعمود الشعر) وهو كما يظهر اختلاف فني واضح بين شاعر إعرابي الشعر مطبوع على مذهب الأوائل ما فارق عمود الشعر وبين آخر شديد التكلّف صاحب صنعة. وتستمر رحلة التلمذة لتحطّ عند مهيار في تلمذته للشريف الرضي وقد اتفقت المصادر على هذه التلمذة يقول ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج4 ص441) عن الشريف ومهيار (وهو شيخه وعليه تخرج في نظم الشعر وقد وازن كثيراً من قصائده) وقد أشار مهيار الى هذه التلمذة في قصيدته التي رثى بها الشريف الرضي، فقال:
قد كنتَ ترضاني إذا سوّمتها تَبَعاً وأرضى أن تسير أمامها
واذا سمعتَ حمدتَ صفوي وحده وذممتَ عشّ القائلين وذامها
فتركتني ترك اليمين شمالَها فرداً اعالجُ قاتلاً أبرامها
ويبدو من خلال هذه الأبيات أن مهياراً مع اعترافه بالتلمذة يذكر لنا أن الشريف الرضي كان يسمع شعره ويعجب به وهو راضٍ به كما أن مهياراً راضٍ بهذه التلمذة مفتخر بإلتزام نهج استاذه الفني وتبدو هذه التلمذة أول ما تبدو في طابع عام مشترك يشارك فيه مهيار استاذه فيه فقد التقى مهيار باستاذه الشريف الرضي في طابع الحزن الذي تلون به شعرهما وتمثلت فيه رنة الأسى والألم والشكوى فقد ارتبط شعرهما أولاً بالمآسي الدامية التي تعرض لها أهل البيت (ع) وخصوصاً واقعة كربلاء.
وكان الشريف حزيناً أيضاً لأنه ابن عصره عصر الاضطرابات والفجائع وهو صاحب طموح وغايات عليا تصطدم بواقع أليم يقف بوجه همته ويعاكس رغباته وآماله. أما مهيار فكان حزيناً لأنه ابن عصره أيضاً وعاش في جو العزلة لسنوات طوال لأنه مجوسي حتى إذا وجد مكانه في ظل الاسلام والتشيع عاش أجواء الآلام والمآسي التي مر بها التشيع عبرتاريخه الطويل. وتمثل الرثائيات الحسينية الرابط المشترك في شعر الشريف ومهيار فالشريف تمرس في رثاء أهل البيت (ع) وخاصة الإمام الحسين (ع) مستذكراً واقعة الطف الدامية التي عاشها بروحه وقلبه، وفي احدى رثائياته يقول:
بي نزاعٌ يطغى إليكَ وشوقٌ وغرامٌ وزفرةٌ وعويلُ
ليت أني ضجيعُ قبرِكَ أو أثراه بمدمعي مطلولُ
لا أغبَّ الطفوفَ في كل يومٍ من طرِاقِ الأنواءِ غيثٌ هطولُ
في هذه الرثائية المفجعة يمتلئ قلب الشريف أسىً ومآقيه دموعاً كأنه شاهد الفاجعة بأم عينيه فيتمنى أن يكون فداءً للإمام الحسين (ع) وأنه (ضجيع قبره) ويشارك مهيار الشريف في نظرته فيتمنى أن يكون شهيداً بين يدي الإمام الحسين (ع)، فيقول:
فداؤك نفسي ومن لي بذاك لو أن مولىً بعبدٍ فُدي
وليت دمي ما سقى الأرض منك يقوتُ الردى وأكون الردي
وليت سبقتُ فكنتُ الشهيدَ أمامكَ يا صاحب المشهدِ
أما مظاهر التلمذة الأخرى فنجدها في فنون الشعر المختلفة التي قال فيها مهيار وتكاد تكون واضحة جلية في رثائه ومديحه ونسيبه. ويظهر أن التلمذة الشعرية في تاريخها الطويل لم تكن تقليداً أعمى واحتذاءً دائماً لأساليب الاستاذ وطرقه الفنية فأكثر نماذج التلمذة الشعرية لا تنفي ذاتية الشاعر وطابعه الشخصي وتختفي حدود التلمذة في اختلاف النهج والاسلوب وتأثير العامل الذاتي الذي طوّر تقاليد القصيدة واسلوبها.
|
|