قافلة السبايا تدخل الشام..
صرخات و دموع تفضح زيف النظام الأموي
|
*إعداد / حسين محمد علي
منذ شهر صفر سنة 61 للهجرة وحتى اليوم تردد الاجيال محاولات التزييف الاموي لواقعة الطف، وإلصاق تهمة الخروج عن الدين بالامام الحسين وأهل بيته، لكن أبت الحقيقة إلا ان تبقى ساطعة مشرقة على وجه التاريخ، فقد أمر يزيد بن معاوية بأن تقام الاحتفالات في الشام مركز حكومته وسلطانه، فعلقت الزينة ودعي المغنون والمطبلون ليجوبوا الشوارع لاستقبال قافلة سبايا آل الرسول القادمة من الكوفة وذلك في مطلع شهر صفر! فهو كان يتصور انه بهذا العمل سيقتفي أثر أبيه بحجب الحقيقة عن الناس و وصف أهل البيت بانهم بعيدون عن الاسلام كليةً، لكن خاب سعيه وافتضح أمره، لأن قافلة السبايا التي كان يتقدمها الامام زين العابدين عليه السلام وعمته زينب العقيلة وباقي نساء واطفال الامام الحسين واهل بيته، شكلوا القناة الاعلامية التي كشفت الحقيقة كلها لأهل الشام ولكل العالم وعلى مر الاجيال، وإن بقي هناك من يشك بالحقيقة، فهو إما بعيد عن التاريخ أو ربما يكون هو من ضمن التاريخ دون أن يشعر!
والحقيقة؛ اذا كان شهر صفر بالنسبة لنا يحمل (النحس) والاحزان لتضمنه مناسبات أليمة ومفجعة علينا، مثل ذكرى سبي ذرية الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله على يد الحكم الاموي، ثم حلول ذكرى الاربعين الحسيني، وذكرى استشهاد السبط المجتبى الحسن بن علي عليهما السلام، ثم ذكرى رحيل نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله في نهاية الشهر. لكن في نفس الوقت فهو شهر مشؤوم على اعدائنا منذ سنة 61للهجرة وحتى اليوم والى يوم القيامة، بعد ان اصطدم السيف والقسوة والطغيان بالصرخة الحسينية المدوية في الكوفة والشام، فاذا انتصر الدم على السيف في كربلاء، فقد انتصرت العاطفة والمنطق والحقيقة على القسوة والتضليل والظلم خلال مسيرة السبي، ولاسيما في الكوفة والشام.
ان الخطب عظيم والمصاب جلل، والاحداث جمّة في هذا السياق، فلا يسعنا سوى التركيز على قضيتين بارزتين: دخول حرم قافلة السبايا الى الشام ومحاولات التضليل، والقضية الثانية قصة وفاة السيد رقية سلام الله عليهما في الشام، وهي حكاية ليست من المؤلفات او من ابداعات الخيال والوصف والاثارة، إنما هي صورة مصغرة من النفس الانسانية التي تشهد دائماً الصراع بين الخير والشر. وبين الحق والباطل.
في الطريق
اراد يزيد من خلال تسيير قافلة السبي في طريق طويل يمر باكثر عدد من المدن والامصار، ان يعلن للناس انتصاره على اعداء النظام الحاكم، لكن خاب ظنه وسعيه، بل (انقلب السحر على الساحر).
حسب المصادر التاريخية وحسب ما جاء في مقتل (أبي مخنف)، بان قافلة السبايا تتقدمها رؤوس الشهداء الابرار تحركت من الكوفة الى الشام وسلكت الطريق الى (الحصاصة)، فعبر بهم إلى (تكريت)، ثم عبروا بهم طريقا برياً إلى (أعمى)، ثم مروا على (دير أعور) ثم (صليتا) وبعدها (وادي نخلة) وفي هذا المنزل تداعت إلى أسماعهم أصوات الجن وهم ينوحون على الإمام الحسين عليه السلام ويرثونه، ثم ساروا من وادي نخلة عن طريق (أرمينيا) حتى بلغوا (لبا)، وقد خرج أهلها ينوحون ويبكون ويصلون على الإمام الحسين عليه السلام وأبيه وجده صلوات الله عليهم، ويعلنون البراءة من قتلته، ثم طردوا العسكر من بلدتهم. وتابع الركب سيره حتى عبروا (كحيل) ومنها إلى (جهينة) وحاولوا دخول (الموصل) لولا خروج أربعة آلاف مقاتل من الأوس والخزرج لقتال عسكر ابن زياد لعنه الله.
وعبروا من (تل اعفر) نحو جبل (سنجار)، ومن هناك انتهوا إلى (نصيبين) ومنها إلى (عين الوردة) ثم إلى (دعوات) حيث نصبوا الرأس المبارك من الظهر إلى العصر في (الرجبة)، وانقسم الناس هناك إلى فريقين، فريق أسعده الأمر وأفرحه وفريق أقام مأتم الحزن والعزاء. ثم ارتحلوا إلى (قنسرين) فاستقبلهم أهلها باللعن والضرب بالحجارة ولم يسمحوا لهم بدخولها، فانصرفوا منها إلى (معرة النعمان) حيث استقبلهم أهلها بالترحاب، وقدموا لهم الطعام والشراب، ثم توجهوا إلى (شيزر) فمنعوا من دخولها، فتابعوا مسيرهم إلى (كفر طاب) حيث منعوا من دخولها، وقد نفذ منهم الماء واشتد بهم العطش، ولم يجد التماس خولي ورجاءه لهم نفعا، بل قيل لهم، لن تذوقوا قطرة ماء واحدة، كما قتلتم الحسين وأصحابه عطاشى.
ثم انتقلوا منها إلى (سيبور) فانبرت طائفة من أهلها لقتال هؤلاء الكفرة، فدعت لهم أم كلثوم بأن يسيغ الله مياههم، ويرخص أثمان حوائجهم، ويحجب الطغاة عنهم. ثم توجهوا إلى (حماة) فاغلق أهلها الأبواب في وجوههم. فتوجهوا نحو (حمص) ومنها إلى (بعلبك) حيث استقبلهم أهلها بالطبول والزمر ونقر الدفوف، فدعت عليه أم كلثوم نقيض ما دعت لأهل سيبور، ثم انتقلوا منها إلى (الصومعة) ومنها إلى (الشام).
وقد جرت الكثير من الكرامات لأهل البيت عليهم السلام، وكرامات صدرت عن الرأس الشريف المقدس. منها ما ورد في (روضة الشهداء) للفاضل الكاشفي:
لما اقتربت قافلة السبايا من الموصل، وأبلغ جند يزيد عاملها بوصولهم، رفض أهلها دخول الرؤوس وأهل البيت إلى مدينتهم، وأرسلت إليهم الأطعمة والأعلاف وهم على بعد فرسخ منها، حيث نزلوا هناك، ووضعوا الرأس المقدس على صخرة، فوقعت قطرة دم من الحلقوم المقدس على تلك الصخرة، فصارت تلك الصخرة بعد ذلك ترشح دما عبيطا طريا كل عام في يوم عاشوراء. فأقام الناس في مكانها مشهدا، وصار مزارا يعرف بمشهد (النقطة).
في الشام
عندما دخلت قافلة السبايا الى الشام، وقف أحد الشاميين قبالة الامام زين العابدين عليه السلام شامتاً به، وهو يتصور ان الذين امامه أسارى من بلاد الكفر، ظفر بهم المسملون في احدى حروبهم وغزواتهم. فقال له الامام بكل هدوء واتزان رغم ما كان عليه من ثقل الحديد والضغط النفسي الشديد، ياشيخ هل قرأت القرآن؟ قال نعم، فقال له: هل قرأت هذه الآية "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"، قال نعم، فقال: نحن أهل البيت الذين اذهب الله عنّا الرجس وطهرنا تطهيرا"، ثم اردف الامام له: وله قرأت هذه الآية: "قل ما أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" قال نعم قرأت ذلك، فقال له الامام : نحن القربى ياشيخ... وبذلك بين الامام بكل هدوء واتزان وقوة حجة لهذا الشيخ الشامي إن اهل مدينته إنما يبتهجون ويفرحون لقتل وسبي أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، بل وان النبي الأكرم جعل أجره من الأمة الاسلامية مودة أهل بيته وحسب، فهل أدى المسلمون هذا الحق...؟!
واذا كانت ثمة داهية تلمّ الامة الاسلامية، فهي ليست سوى استمرار فئة من المسلمين وهم يحملون اسم الاسلام ويتمسكون بالسنّة السيئة التي سنّها الامويون بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام، باظهار الفرح والابتهاج في يوم العاشر من محرم، والتقوّل على النبي الاكرم بان هنالك صوما مستحبا فيه كذباً وتزويراً.
في مجلس يزيد
حقاً ان في الكلمات المضيئة لحفيدة النبي الاكرم زينب العقيلة عليها السلام، مشعلاً يضيء لنا الدرب في ظلام المتاهات السياسسة والفكرية والثقافية، وما أحوجنا اليوم وكل يوم الى هذه الكلمات التي اطلقتها وهي ليست في مؤتمر صحفي تحمل صفة سياسية وتحتمي بجماعة او دولة او أية قوة سوى الله تعالى والرسالة الحقّة التي بشر بها جدها للبشرية. لقد كانت مسبية وأمام طاغية متجبّر ومتهتك، والأنكى من كل ذلك تجرؤه على استفزاز عائلة الامام الحسين عليه السلام بضرب الرأس الشريف بخيزران بيده. لنستمع الى مقتطفات مما اطلقته العقيلة زينب من شرارات وسط ذلك المجلس:
روى الشيخ الصدوق – رضوان الله عليه- من مشايخ بني هاشم وغيره: انه لما دخل علي بن الحسين (عليه السلام) وحرمه على يزيد جيء برأس الحسين عليه السلام ووضع بين يديه في طشت، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده وهو يقول:
ليـت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
بعد هذه الكلمات الشركية والمنطق الجاهلي البالي الذي تفوه بها ذلك الطاغية، قامت اليه العقيلة وقالت:
(الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: "ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ"(الروم /10).
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الأسراء ان بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، وفمهلاً مهلاً، لا تطش جهلا، أنسيت قول الله تعالى: "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران /178).
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت).
ثم قالت العقيلة عليها السلام وهي تصف حالتها بغير قليل من الأسى واللوعة وما آل اليه الحال:
(ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى. ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين.
ان الكلمات المدوية التي اطلقتها العقيلة زينب عليها السلام وما اعقبه من كشف الحقائق على خطاب الامام زين العابدين على المنبر، والذي كان اول مجلس حسيني يقام من قبل امام معصوم وفي عقر دار العدو، هي التي كشفت زيف ادعاءات يزيد بان الامام الحسين واهل بيته خارجون عن الدين و(شقوا عصا الطاعة)، انما الخارج عن الدين والاخلاق والانسانية هو الحاكم نفسه. ويذكر المؤرخون ان يزيد عجّل بترحيل قافلة الامام من الشام الى المدينة خوف انقلاب الامر عليه، بعد ان تحول اهل الشام من أناس لايصدقون بان الامام علي عليه السلام يصلي، الى باكين ومنتحبين تحت منبر حفيده علي بن الحسين عليهما السلام.
|
|