القِصَّة في القرآنِ الكريم.. الإبداع في التذكير والإعجاز في العبرة
|
*أعدّ الصفحة / زكي الناصر
القصة لغة: (القصة: الخبر،وهو القَصَص، وقصَّ علي خبره يقصه قصا وقَصَصا:أورده )(1). ومنه: القصّ وهو تتبع الأثر، والقـَـصص: الأثر، والقصص: الأخبار المتتبعة، وللقصة معان أخرى متقاربة، فهي تأتي بمعنى (الخبر)، و(الأمر والحديث) و(الجملة من الكلام).
فمدلول القصة في اللغة واضح و واسع، ولكن بعض المُحْدَثين يختار مدلولا للقصة فيه بعض القيود، وهو: (الحكاية عن خبر وقع في زمن مضى لا يخلو من بعض عبرة فيه شيء من التطويل في الأداء)(5).
القصة اصطلاحا: أما مفهوم القصة في القرآن الكريم، فهو وإن كان واضحا في مفرداته ومصاديقه، وذلك من خلال وضوحه في اللغة، غير أن ضبطه بحدٍّ في القرآن الكريم قد تتفاوت فيه وجهات النظر، وذلك نظرًا لما في القصة القرآنية من خصائص تميزها عن غيرها؛ من صدقٍ في الواقعية التاريخية، وجاذبيةٍ في العرض والبيان، و شموليةٍ في الموضوع، وعلوٍ في الهدف، وتنوعٍ في المقصد والغرض، ووضوحٍ في الإعجاز.
فمدلول القصة في القرآن هو مدلولها اللغوي مضافاً إليه تلك الخصائصُ والسِمَاتُ التي تميز بها القَصص القرآني على غيره.
*أثر القصة وأهميتها في القرآن الكريم*
1- أثر القصة في النفوس..
لقد جاء القرآن الكريم داعيًا إلى الهداية والرشاد، بأساليبَ شتى؛ فتارةً بالوعد والوعيد، وتارة بالإقناع العقلي، وتارة ثالثة بوخز الضمير والوجدان، ورابعةً بتوجيه الفطرة إلى حقيقتها، وخامسة بالإعجاز بشتى ألوانه، وأحيانا كثيرة: بأسلوب القصص، الذي هو أقرب الوسائل التربوية إلى فطرة الإنسان، وأكثر العوامل النفسية تأثيرًا فيه، وذلك لما في هذا الأسلوب من المحاكاة لحالة الإنسان نفسه، فتراه يعيش بكل كيانه في أحداث القصة، وكأنه أحد أفرادها، بل وكأنـه هو (بطل القصة) أو (الشاهد) فيها، فيَرَى من خلالها كلٌ من الصالح والطالح ما في نفسه من أحاسيس، وما في خَلَده من أحاديث، وما يجري حوله من أحداث وحوار، كل ذلك من خلال تجاوبه مع القصة.
ولو أننا قمنا بمقارنة سريعة بين أحدث المناهج التعليمية والتربوية اليوم، لوجدنا أن أكثر المناهج نجاحا في عرض الفكرة أو صياغة المادة العلمية بأسلوب قـَـصصي جذاب، هي أكثرها نجاحا وأينعها ثمارا، لأنها تكون حينئذ أحب إلى قلب الطالب، وأقرب إلى فطرته، وأسهل عليه حفظا وفهما، وأدعى لتلقيها بدون أيّ مشقة أو ملل، لذا كانت القصة ولا تزال مدخلا طبيعيا يدخل منه أصحابُ الرسالاتِ والدعواتِ، والهداةُ، والقادةُ، إلى الناس وإلى عقولهم وقلوبهم، ليلقوا فيها بما يريدونهم عليه، من آراءَ، ومعـتقداتٍ، وأعمالٍ.
2- أهمية القصة في القرآن..
ومما زاد من أهمية القصة في القرآن الكريم ما يلي:
أ- ورودها منسوبة إلى رب العزة والجلال في قوله تعالى: "نحن نقص عليك أحسن القصص" (سورة يوسف: 3 ).
ب- أمر الله رسوله أن يقص على الناس ما أوحي إليه: "فاقصص القَصَص لعلهم يتفكرون" (سورة الأعراف: 176) .
ج- القصة مَعلم بارز من معالم القرآن لتوضيح الحقائق وإزالة الشبه: "إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون" (سورة النمل :76).
د- والَقصُّ ـ بالمفهوم العام ـ كان من مهمات الأنبياء و الرسل: "يا معشر الجن والإنس ألم يأتِـكم رسل منكم يقصون عليكم آيات" (سورة الأنعام:130) .
*خصائص القصص القرآني*
يتميز القَصَص القرآنيّ عن غيره من سائر القصص بخصائص يعلو بها جلالةً وقداسةً، ويزداد بها بلاغة وإعجازًا، ويعظم بها أهمية وتأثيرًا، وبهذه الخصائص استحق أن يُوسَم بأحسن القصص، ومن تلك الخصائص:
1ـ التكرار الهادف و المعجز: ولما لهذه الخِصِّـيصة من تميز وظهور، فإنما أفردنا الحديث عنها لبيان المراد بإطلاق التكرار في القرآن، وبيانِ مغازيه وأهدافه التي تزيده سموا ورفعة.
2ـ الواقعية التاريخية، ونعني بها أن كل ما في قـَـصص القرآن من أخبار الأولين فإنها هي حقائق تاريخية صادقة لا يصادمها عقل، ولا يخالفها نقل، وسواءٌ في تلك المصداقية ما كان من أخبار الأنبياء مع أقوامهم، وما كان من قبيل المعجزات وخوارق العادات، كانفلاق البحر وكلام الهدهد والنملة، وليس فيها أي نوع من التناقض أو الاختراع، ولا أي شكل من أشكال الخيال أو التصوير المجرد عن الحقيقة، ولا أي صورة من صور الرمز أو الإشارة، كما يدعي بعض المستشرقين، أو أذنابهم ممن ختم الله على قلوبهم، فهم لا يفقهون ؛ باسم الإبداع الأدبي تارةً، وباسم الفن القصصي تارة أخرى، وباسم الإمتاع وسعة الخيال تارة ثالثة، وبأسماء أخرى تاراتٍ و تاراتٍ، وليس لهؤلاء همٌّ ولا هدفٌ من أدبٍ وغيره، إلا تقويضَ دعائم القرآن، والتشكيكَ في مصداقيته: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون" (سورة الصف: 8)، وأيُّ مصداقية أعظم مما يقول الله فيه وهو أصدق القائلين: "إنَّ هذا لهو القـَـصـص الحق" (آل عمران: 62).
3- الشمولية المطلقة، فـقـصص القرآن شاملة من عدة جهات:
أ- في حصر النفوس المخاطبة وطباعها وخلالها ووجهاتها ومكامن شعورها.
ب- في تـنـويع الأساليب والوسائل الملائمة لكل جنس وطبقة ولون.
ج- ومن حيث الزمن؛ فالقصة تـتحـدث عن الماضي والحاضر والمستقبل.
د- ومن حيث شمولية موضوعاتها؛ فكما أنك تجد في موضوعات القرآن شمولا، فكذلك تجد في قصص القرآن شمولا لكل تلك الموضوعات، من عقائد وعبادات وأخلاق وآداب اجتماعية واقتصادية وسلطانية وغير ذلك.
4- الهدفية في القصة.. فالغاية الأولى من قصص القرآن هي تأملها وأخذ العبرة منها وتصحيح العقائد والأخلاق، حتى ينصلح الفرد والمجتمع، وليست الغاية قاصرةً على إمتاع النفوس بسماع قصص مسـليِّة أو بطولات خيالية، أو إظهارَ براعة أدبية مجردة عن هدف الإصلاح، كما هو الحال في عامة الفنِّ القصصي، وليست الغاية أيضا سردًا تاريخيًا جافا، كما هي مهمة المؤرخين، فالقرآن بكل ما فيه من قصص وغيرها هو كتاب هداية وعبرة بالدرجة الأولى، قال جل شأنه: "لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديقَ الذي بين يديه وتفصيلَ كل شيء، وهدًى ورحمة لقوم يؤمنون" (سورة يوسف: 111) .
*العبرة في القَصَص القرآني*
إن الهدف الأول من القصص القرآني لا يتجاوز المحور الأعظم لأهداف القرآن الكريم، ألا وهو كونه هداية للناس أجمعين فالقصة القرآنية تمثل جزءا كبيرا من القرآن الكريم، وهي تتحد مع ما سواها مصدرًا وموضوعًا وغايةً، ولـكـن إذا ما أردنا شيئا من التـفـصيـل فإننا نستطيع أن نجمل أهداف القصص القرآني في النقاط التالية:
1- الاعتبار والاتعاظ من خلال النظر في سنة الله النافذة في هذا الكون، فالعاقبة دائما للمتقين، والبوار والخزي دائما على الظالمين، وما أكثر الآيات التي تأمرنا بالسير في الأرض للنظر والاعتبار من عواقب وآثار الماضين، وفي هذا يقول سبحانه: "لقد كان في قـَصَصِهم عبرةٌ لأولي الألبابِ" (سورة يوسف: 111)، ومعنى العبرة: هو التأمل والاتعاظ والاعتبار بأن نقيسَ أنفسنا على السابقين ممن قصَّ الله علينا نبأهم بالحق، فـنعلمَ أنَّ سنة الله ماضية فينا كما خلت في الذين من قبلنا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
2- تصحيح العقائد الفاسدة وتثبيت العقائد الصحيحة ومحورها أمران: الإيمان بالله وحده، والإيمان بالبعث بعد الموت، وهذا ظاهر من خلال دعوات الرسل والأنبياء جميعا لأقوامهم.
3- تقويم الخلق والسلوك الفردي والجماعي، وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، وهذا ظاهر من خلال معالجة كل نبي لصفة معينة في قومه كان يسعى لإصلاحها؛ فالقصص يصوِّرُ ـ مثلا ـ شناعة ما كان عليه قوم لوط، وما كان عليه أهل مَدين، وما كان عليه الطغاة والمفسدون من ظلم وجور ومنع للفقراء، وتصوِّر شناعة الحسد الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه، وشناعة طبائع اليهود، وفي جانب آخر تصور ما كان عليه الأنبياء والصالحون من صبر وعدل وعطاء، وكيف حقق سيدنا سليمان عليه السلام وغيره الخلافة في الأرض على أساس من العدل والخلق والاستقامة.
هذا ما يتعلق بأهداف القصص القرآني عموما، أما إنْ أردنا تفصيلا أكثر فإننا سنجد أنفسنا أمام بحر لا ساحل له ولا قرار، حيث إنَّ المتدبر لقصص القرآن واجدٌ في كل قصة، بل في كل آية، وفي كل كلمة والتـفاتة قرآنية، من الأهداف والعبر والإشارات واللطائف، ما تعجز عنه الألسن ولا تبلغ مداه الأفهام، وصدق الله العظيم إذ يقول مبينا تلك الأهداف العظيمة من القصص: "لقد كان في قـَصَصِهم عبرةٌ لأولي الألباب ما كان حديثا يُفترَى ولكنْ تصديقَ الذي بين يديه وتفصيلَ كلِّ شيءٍ وهدًى ورحمة لقوم يؤمنون" (سورة يوسف: 111)، وتأمَّلْ كيف جاء لفظ (عبرةٌ) منكرًا ليفيد الشمول والعموم ؛ ففي قصصهم عبرة عن كل شيء، وفي كل شيء من قصصهم عبرة، ولكنْ مَن يستخرجُ تلك الدرر والجواهر...؟ إلا من آتاه الله عقلا نيرًا وقلبًا مبصرًا، ولذلك جعل العبرة في الآية السابقة قاصرة على (أولي الألباب).
|
|