في ذكرى حركته الثأرية..
المختار. . الثائر الذي غدرت به السياسة
|
*محمد علي جواد
حسب التقويم تصادف هذه الايام من شهر ربيع الثاني ذكرى الحركة التي قادها المختار بن عبيدة الثقفي في الكوفة للاقتصاص من قتلة الامام الحسين عليه السلام وأهل بيته صلوات الله عليهم، وقد كثر الحديث عن المختار على صعيد التاريخ فكتب عنه المؤرخون وتقاطعوا في الرأي حوله، وايضاً على الصعيد الاجتماعي، حيث تحول الى رمز للقوة والبطولة تتناقله الاجيال فاصبح اسماً يثير المشاعر الجياشة في نفوس الشيعة، والسبب واضح جداً هو ان واقعة الطف اصابتهم بجرح غائر في نفوسهم، حملهم على التزام نهج الرفض والمعارضة للانظمة الحاكمة على طول الخط. لذا كانوا يبحثون دائماً عن مصدر للقوة بين من يثور تحت لواء (يا لثارات الحسين) او من يتحدث عن مظلومية الشيعة وأهل البيت عليهم السلام.
وبما ان التاريخ الاسلامي يشهد للشخصيات البارزة في جبهة الحق أنها كانت تحمل صفات الشجاعة والإباء ومكارم الاخلاق لاتصالهم بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، فاننا لا نجد حاجة الى سرد حياة هذه الشخصية الكبيرة واللامعة، وعن نشأته و ولادته وصفاته، لأنه بالحقيقة ليس بالشخصية التي كانت تحوم حول نفسها، إنما تحول الى ملك للتاريخ والاجيال، الامر الذي يتعين علينا تسليط الضوء ولو بشكل مجمل في هذا الحيّز المحدود، على الظروف التي رافقت حركة المختار في الكوفة سنة (66) للهجرة، للتعرف اكثر على هذه الشخصية وايضاً على تجربتها الفريدة، وكما يقول المرجع المدرسي في (التاريخ الاسلامي) فان (التاريخ لا يُدرس من اجل التاريخ، إنما من اجل الحاضر ايضاً، ولذا فان كلمة (لماذا)؟ يجب ان تتكرر كلما وقفنا عند ظاهرة تاريخية).
وثمة حقيقة هامة جداً لابد من الاشارة اليها قبل الدخول في تفاصيل هذه الحركة التي شكلت نقطة مضيئة في التاريخ الشيعي على وجه الخصوص، وهي ان المختار قاد حركته الانتقامية – إن صحّ التعبير- في وقت ما يزال مستوى التفكير في المجتمع الاسلامي محصوراً بين أطر الزعامة والقوة العسكرية، لأن مفهوم (القوة) مسألة في غاية الخطورة في الثقافة الاسلامية، وطالما جهد الرسول الأكرم ومن بعده أمير المؤمنين وسائر الأئمة الاطهار لتقويمها و وضعها في المكان المناسب الذي يخدم القيم والمبادئ وليس الاشخاص والنوازع والغرائز، ولذا فان اهل الكوفة تحديداً وكانوا يشكلون احد مفاصل المجتمع الاسلامي، وبعد ان رأوا التصدعات في قصر الإمارة بعد واقعة الطف وعودة ابن زياد الى البصرة، راحوا يبحثون ويتطلعون الى الشخصية القوية التي تقودهم للتغيير لاسيما وانهم ذاقوا مرارة الندم على خذلانهم ابن بنت نبيهم، ولنقل انهم كانوا دائماً يحلمون بفارس الاحلام لينقذهم مما يحصل لهم من مكاره وفتن، وهذا ما جعلهم يتقبلون ظاهرة (الزبيرية) في الأمة، وصعود نجم عبد الله بن الزبير وشقيقه مصعب، وأن يتمكن هذا الطاغية الذي لم يقل عن الأمويين حقداً وعداءً لأهل البيت، من أن يوظف ثورة الامام الحسين عليه السلام لتحقيق طموحاته السياسية في الخلافة وسحب البساط من الأمويين. جاء في (التاريخ الاسلامي)، ان ابن الزبير الذي صدقه بعض المسلمين واتبعوه، وصل الى الحكم عبر مبادئ الامام الحسين، وهو نفسه الذي قضى على حكم المختار... وحسب الاحصائيات فان مصعب بن الزبير قتل حوالي سبعة آلاف من اتباع المختار كلهم كانوا من طالبي الثأر لدم الامام الحسين عليه السلام!
ويبدو ان ذكر ابني الزبير – عليهما اللعنة- سيرافقان الحديث عن المختار، لأنهما تشبثا بقضية الامام الحسين وواقعة الطف حبّا بالظهور والهيمنة، فمنذ خروج المختار من سجن ابن زياد في الكوفة لم يجد من يماثله في القضية الثأرية سوى عبد الله بن الزبير الذي اتخذ من الحجاز منطلقاً لحركته المعارضة للنظام الأموي، وهي بحد ذاتها تعد مفارقة للتاريخ، فقد أغوى والده الزبير المعروف بعلاقته الوطيدة والقديمة بأمير المؤمنين عليه السلام، ودفعه لقتاله عليه السلام طمعاً بعد ان يأس من انتزاع ولاية الكوفة من الامام وحصل ما حصل من (حرب الجمل) الطاحنة، لكن نجده في هذه البرهة الزمنية يلتجئ الى مكة المكرمة ليتخذها غطاءً شرعياً ترفعه – حسب اعتقاده – الى درجة أعلى من شرعية الامام زين العابدين عليه السلام الموجود في مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله. يؤيد هذا الرأي السيد هاشم معروف الحسني في (الانتفاضات الشيعية)، حيث يقول: (لم يكن المختار ممن يجهل نوايا ابن الزبير وأطماعه وحقده على البيت العلوي، ولكنه لم يجد سبيلاً لمحارية الامويين إلا بالالتجاء الى أقوى المعارضين لدولتهم...).
في هذا الكتاب القيّم يقول السيد الحسني (رحمه الله) (إن المختار لازم ابن الزبير في الحجاز وحثّه على الخروج واعلان نفسه حاكماً وأن يقود الحجاز من خلال الثورة وتعهد بمساندته، لكن الاخير رفض وطلب التريّث ثم أظهر التقوى والورع والجزع على واقعة الطف)، لكنه بالحقيقة وكما تشير حركة الاحداث، لم يكن متريثاً إنما كان مترقباً لحركة المجتمع وما تدفع اليه المشاعر العدائية والثأرية نحو الانتفاضة والثورة والانتقام من الأمويين، وهو ما يجعل الارضية الجماهيرية أقوى وأكثر نضوجاً له ليتولى قيادة بديلة عن الأمويين لا جدال فيها. فقد شهد ابن الزبير حركة التوابيين ومأساتها، ثم حركة المدينة وما جرى على أهلها من الويلات والمصائب، وهو يجد أمامه شخصية ولائية وثيقة الصلة بأهل البيت عليهم السلام مثل المختار، وجاء ان ابن الزبير وافق على عرض المختار بعد حصول كل تلك الاحداث التي وظفها لصالحه. و وافق المختار على البيعة لابن الزبير بشروط رفضها بدايةً لمعرفته بشخصية المختار، لكنه وافق دجلاً ونفاقاً، كان من بينها أن لا يقضي أمراً دونه، وان يستعين به على أهم أعماله.
وبعد طرد أهل الكوفة لعامل ابن زياد وهو عمر بن سعد، الذي بات وجهاً كريهاً للجميع، فقد بادر ابن الزبير الذي وجده نفسه البديل الندّ للخلافة القابعة في الشام، الى ان يرسل عاملين الى الكوفة هما: عبد الله بن يزيد وابراهيم بن محمد بن طلحة، وبعد فترة فاحت منهما رائحة الفساد على كافة الاصعدة، فارتفعت اصوات المعارضة من المجتمع الكوفي، فاضطر ابن الزبير لاستبدالهما بعبد الله بن مطيع، لكنه لم يكن خيراً من سلفيه، فما كان من أهل الكوفة إلا ان يلجأوا الى المختار ويخولوه أمرهم، وما هي إلا فترة وجيزة حتى ذاع صيت المختار ليس في الكوفة وحدها بل في جميع أرجاء العراق والبلاد الاسلامية الأخرى، وحسب (التاريخ الاسلامي) فان حكم المختار وصل الى تخوم أرمينيا، وهذا ما جاء ايضاً في (الانتفاضات الشيعية)، إذ يؤكد واستناداً الى (الاخبار الطوال) للدينوري، بان معظم بلاد الاسلام خضعت للمختار ما عدا الشام والحجاز.
وبعد ان انكشف امر الزبيريين وفسادهم في الكوفة والعراق، دخل المختار لأول مرة قصر الإمارة وبسط يده للبيعة على كتاب الله والطلب بثأر أهل البيت ومناصرة من يناصرهم، فتقاطر عليهم الآلاف من المناصرين، وقد انضم اليه ابراهيم بن مالك الاشتر. وأهم شيء قدمه للمسلمين كانت سياسة العدل التي طالما غابت في المجتمع الاسلامي، فأخذ الأموال وقسمها بالسوّية على المسلمين دون النظر الى العرق او القومية او اللغة، وهذا ما جعل الموالي، وهم المسلمون من غير العرب، يلتفون حوله وكانت أعدادهم تفوق بكثير أعداد العرب المسلمين، ولعل هذه النقطة المضيئة هي التي جعلت مسيرة المختار السياسية والاجتماعية تسير بنجاح ولو لفترة قصيرة، لكن المؤسف انها كانت بحاجة الى نقاط أخرى تمتد الى جانبها لتشكل خطاً مضيئاً يمكّن المختار ومن بعده لمواصلة طريق الحكم بما أنزله الله وسار عليه أهل البيت عليهم السلام.
أما عن المحطة الأهم في الحياة السياسة للمختار ألا وهي الثأر لدم الامام الحسين عليه السلام، فيذكر لنا التاريخ بان المختار لم يسلك نهجاً عدوانياً في هذا الطريق، ولم ينقضّ على البيوت كما يفعل أهل السلطة الحكم في زماننا تشفيّاً بمعارضيهم، إنما نظّم جيشاً لقتال أهل الشام معقل الحكم الأموي المارق عن الدين، لكن نهج المساواة بين العرب وغيرهم في الكوفة اثارت انزعاج الاشراف ورؤوس القبائل العربية منهم شبث بن ربعي وأمثاله، وحتى تلك الفترة لم يهدده المختار بشيء وهو لايجهل خذلانه ثم توليه موقعاً قيادياً في جيش ابن سعد لقتال الامام الحسين عليه السلام، لذا حصل نوع من التمرّد على المختار داخل الكوفة، واراد دعاة (القومية العربية) إن صحّ التعبير، استغلال فرصة وجو جيش المختار خارج الكوفة استعداداً لملاقاة جيش الشام، والاجهاز على قصر الإمارة، إلا ان ذكاء المختار وسرعة المبادرة لديه جعلته يفوّت الفرصة عليهم، ويبعث برسالة عاجلة الى قائد جيوشه ابراهيم الاشتر بالعودة بمن معه الى الكوفة بأقصى سرعة، وبين ليلة وضحاها كان فرسان الاشتر تجوب شوارع الكوفة ولم يكن لاتباع المتعصبين أي اثر، وحسب ما يروي الدينوري في (الاخبار الطوال) بان أولئك المتعصبين هم الذين جلبوا النار الى انفسهم، فبعد ان هرب معظم قتلة الامام الحسين عليه السلام من الكوفة بعد سيطرة المختار عليها، عادوا اليها ثانية طمعاً بالهيمنة من جديد بعد سماعهم أنباء التمرد، وكان في مقدمة هؤلاء شمر وعمر بن سعد وابنا الاشعث محمد وقيس، فدخلوا بارادتهم في معركة خاسرة مع المختار وكانوا حطباً لنار الثأر، وربما تكون هي الإرادة الإلهية.
بعد انتصار المختار في هذه المعركة، لم يجد بدّاً من الاسراع بتصفية من تبقى من قتلة الامام الحسين عليه السلام في الكوفة قبل ان يتفرغ لمواجهة الحكم الأموي في الشام، فاعلن الحرب داخل الكوفة ونادى مناديه: (من اغلق بابه فهو آمن إلا من اشترك في قتل الحسين)، وكان يردد دائماً: (اطلبوا لي قتلة أهل البيت فانه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الارض والمصر منهم)، وتعالت الصرخات من كل جانب: (يا لثارات الحسين)، قابلتها في الجهة الاخرى لانصار الأمويين شعار (يا لثارات عثمان)! ولم تكن بالمعركة الصعبة، فقد أبادهم المختار عن بكرة أبيهم، وأسر منهم خمسمائة رجل، ولما عرضوا على المختار أخرج منهم مائتين وثمانية واربعين رجلاً اشتركوا في قتال الامام الحسين عليه السلام، فقتلوا جميعاً وأطلق سراح الآخرين. وفي تلك الفترة ألقي القبض على عمر بن سعد وايضاً خولّي بن يزيد الاصبحي الذي يقال انه هو الذي احتزّ رأس الامام عليه السلام وفصله عن بدنه، وكانت زوجته هي التي دلّت عليه، كما فعلت الكثير من النسوة من زوجات القتلة والمجرمين بعد ان تبرأوا منهم بعد عودتهم من واقعة كربلاء. أما مصير ابن زياد فكان القتل ايضاً ولكن في المعركة الطاحنة والرهيبة التي دارت في اطراف الموصل بين الجيش الأموي بقيادته وجيش العراق بقيادة ابراهيم الاشتر.
وبعد ان انتهى المختار من القضاء على قتلة الامام الحسين عليه السلام والثأر لدمه الشريف في الكوفة وغيرها، واصل مسيرته لبلوغ الهدف الذي من اجله انطلق وهو القضاء تماماً على الحكم الأموي الجائر والمارق، وتحكيم نظام الاسلام الحقيقي، لكن للأسف كانت هذه النهاية بداية لنهاية عهده القصيرة على يد ابن الزبير الذي لم يتفق يوماً ولا لحظة واحدة مع المختار في هدفه وغايته النبيلة، لأن السلطة والهيمنة هي الخط الأحمر لابن الزبير ولن يتساهل فيه حتى وإن كان أمامه معصوم، كما فعل مع أمير المؤمنين عليه السلام، وعودة الحق لأهل البيت تعني فيما تعني انكشاف زيفه وحقيقته و زوال ملكه. فوقف بوجه قوات المختار الزاحفة الى الشام، وحصلت معارك دامية وعديدة منها في المدينة ومنها في العراق وتحديداً في الكوفة، وكانت النهاية المأساوية استشهاد المختار على يد مصعب الابن الآخر للزبير. الذي أوغل في دماء المسلمين بشكل رهيب. ولم يرد التعرّف اكثر على ملابسات هذه المواجهة وتفاصيل نهاية حكم المختار، هناك العديد من الكتب القيّمة ليس أقلها (التاريخ الاسلامي) للمرجع المدرسي و(الانتفاضات الشيعية في التاريخ) للسيد هاشم معروف الحسني، للمزيد من المعرفة بشخصية المختار وبتلك الفترة العصيبة من التاريخ الاسلامية.
بقي أن نشير الى مسألة هامة أخرى، وهي موقف الأئمة المعصومين من حركة المختار. ان كل المصادر والروايات تؤكد على الترحّم على المختار واستحسان ما فعله من الثأر لأهل البيت عليهم السلام. منها ما جاء عن الامام زين العابدين عليه السلام: (الحمد لله الذي أدرك ثأري من أعدائي وجزى الله المختار خيراً)، وعن الامام الباقر عليه السلام اذ قال لأبن المختار أبو محمد الحكم: (رحم الله أباك ماترك لنا حقاً عند احد إلا طلبه)، كما رفض الإمام عليه السلام سبّ المختار، وهذا بحد ذاته يُعد تنزيهاً لهذه الشخصية التي طالما حاول الوضاعون و مؤرخو البلاط الدسّ عليها وتشويها، والإدعاء بانه كان صاحب (مذهب الكيسانية)، او انه كان يخاطب الملائكة ويدعي انهم يقاتلون معه وغير ذلك من التخرصات والادعاءات، ويروى ان عبد الله بن عمر عندما عاتب مصعب بن الزبير على ما فعله من المجازر بحق اتباع المختار، قال: (انهم سحرة وكفرة)! و بالقطع واليقين، فان بهذا التزييف والتضليل تمكن ابناء الزبير من تعبئة الجيوش ليقتل المسلمون بعضهم بعضاً.
وبعد استشهاد المختار (رضوان الله عليه) دفن الجسد الطاهر في سور قصر الامارة وكان بالقرب من المسجد وبقي القبر مغموراً الى ان جاء العالم الرباني المسدد السيد مهدي بحر العلوم رحمه الله وأمر بتنقيب المسجد ومعرفة أثاره ومحاربيه وقد ترجح عند السيد رحمه الله ان يدفن مسجد الكوفة بالتراب حيث كانت ارض المسجد القديمة منخفضة ومغمورة بالمياه، واصبحت تطفو على سطحها المياه الجوفية وذلك بسبب مجرى نهر الفرات فقام السيد رحمه الله بدفن المحاريب بالتراب الجديد الطاهر حفاظاً على قدسية المسجد من التلوث الطارئ. وفي اثناء التنقيب والاستدلال على آثار المسجد من قبل السيد وجماعة العلماء عثر السيد بحر العلوم رحمه الله على القبر الشريف الذي كان معفّى سابقاً وعندئذ ظهر قبر المختار في آخر الدهليز النافذ إليه تحت الارض الى خارج المسجد المؤدي الى قصر الامارة ووجدوا عليه دكة مكتوب عليها اسمه ولقبه ثم تصدى الوجيه محسن الحاج عبود شلاش فأنشأ له حرماً جديداً واسعاً والحقه برواق مسلم بن عقيل عليه السلام جنوباً وجعل لقبره شباكاً حديدياً وسد باب الدهليز القديم من حجرة الزاوية في مسجد الكوفة.
لما دعا المختار جئنا لنصره
على الخيل تعدي من كمي واشقرا
دعا يالثارات الحسين فأقبلت
تعادي بفرسان الصباح لتثأرا
|
|