"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ"...
التوكل على الله يواجه الهزيمة النفسية
|
* كريم الموسوي
لم يكن علم النفس وقفاً للحضارة المعاصرة، كما لم يكن وليد النظريات الفلسفية الحديثة. فعلى الرغم من التطور البيئي في الحياة والتغير الفسيولوجي في جسم الإنسان إلا أن الموروثات البشرية تبقى على ذاتيتها النوعية، وتبقى معالم النفس القرآنية خالدة ما دامت تلك الموروثات البشرية باقية أو ما دامت المعادلة الإلهية في بني الإنسان متواصلة.
وإذا كان الهلع هو سمة من سمات الخلقة بصورة عامة فإن التردد والضعف هو الصفة التي تتسم بها النفس الإنسانية عموماً وعند وهن العظم وكبر السن خصوصاً وان العزم والتوكل هما من أبرز وسائل العلاج النفسي لذلك التردد وذاك الضعف.
وإذا كان العسر هو أحد وسائل الفتنة للذين يدّعون الإيمان حسب قوله تعالى "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" (سورة العنكبوت /2). فإن اليسر بعد العسر هو أحد وسائل الجزاء والإثابة من الله تعالى لعباده المفتونين.
فإذا عزمت
ليست الاتكالية أمرا محبباً في المجتمعات شأنها في ذلك شأن التطفل بل هي منتهى الفلسفة السلبية المخطوءة والخمول الفكري الذي يصاحبه التكاسل الجسدي وما يصحبه من مضاعفات سلبية وليس التوكل كالاتكالية فهما يختلفان ولا يجتمعان في العزم المصاحب للتوكل.
والإحباط مرض - أجارنا الله وإياكم منه- و ابتلاء النفوس المتعبة وقهر الدهر لعظيماتها وهو رفض للإيجابيات وتقبل للسلبيات واقتراب أو انتماء للباطل وابتعاد عن الحق، وتردد للعقل عن التفكير الواقعي السليم، وإنزواء للنفوس عن مجريات الأحداث ومصارعتها وخوف من المواجهة وعدم الحضور الذهني في الأوساط المتحركة وانزواء روحي عن الحياة المتلاطمة أحداثها وعصبية مقهورة مكبوتة داخل نفسها وركون جسماني للكسل واستسلام بغيض لحجج لا أساس لها من الصحة. والواقع والحقيقة أن الإحباط ليس موروثاً اجتماعياً بل هو نتاج وإفراز سلبي لتجربة فاشلة مريرة وقاسية أو نتاج لسلسلة من التجارب الفاشلة في حياة الفرد أساء تفسيرها وتحليل مفرداتها خصوصاً الزمنية منها. فترسخ الفشل فيه روحياً مزمناً بدلاً من أن يكون عارضاً ميكانيكياً وعملياً عارضاً. وهذا الفشل الفارض للإحباط والمولد له ما هو إلا كفساد قطعة في آلة ميكانيكية تصلح إذا ما تم تشخيصها واستبدلت أو تغيرت.
إن الإحباط النفسي الذي نحاول علاجه يختلف عملياً عن الإحباط غير النفسي والذي يعني رد الفعل وعدم قبوله إذا كان مشوباً أو ليس سليماً.
التوكل حرب ضد الاتكالية
والتوكل الذي تشير إليه الآية الكريمة بعد العزم "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (سورة آل عمران /159) تمثل حرباً على الإحباط والاتكالية سالفتي الذكر.
والتوكل على الله هو الاعتماد واللجوء أو الانتماء إلى الله في المواقف، عندما يضيق الصدر وترتفع درجات الإحباط يلجأ الإنسان إلى صاحب وصانع المعادلات الكبرى أين وحيث وكيفما كان... إلى خالق الكون اللامتناهي ليلجأ إليه ويعتمد عليه وهو يعلم أنه يحبه بعد العزم ويستجيب له بعد الدعاء والتوجه.
"إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"... ذلك هو العلاج النفسي الإلهي للنفوس البشرية المحبطة ذات التجارب الفاشلة والتي يقابلها عزم وإصرار وتوجه وتوكل ومن ثم حب إلهي مصحوب بالاستجابة. نعم... إن الله يحب الذين يركنون إليه بعد العزم ويفتخرون بالانتماء إليه عن وعي ودراية. هذا التوكل المحبب إلى الله لم يأت من فراغ ولم يأت إلا مخاضاً للعديد من العمليات العقلية والحسابات الشخصية الفكرية التي تولد العزم والإصرار والاندفاع النفسي الخالي من عوامل الإحباط والتردد والاتكالية.
ولربما يعتقد البعض أن العزم لا يمكن أن يتولد من النفس المحبطة أو تلك التي تعاني من درجات عالية من الإحباط وهذا الاعتقاد محتمل من الناحية العلمية ولذلك يحفّز الله تلك النفس بالحب بعد العزم ويحثها على توليد الإرادة في ذاتها وبذاتها " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (سورة الرعد /11)، فكلفها بالعزم ثم التوكل وهو النتيجة الإيجابية المصاحبة للحب الإلهي. هذه المعالجة النفسية والنتيجة الإيجابية هي التي تقتل الإحباط وتقوض دعائمه التي ترسخت في نفس الإنسان عبر محاولة واحدة وعزم واحد، ينتهي الإحباط ليبدأ الإنسان عمله من جديد بصورة طبيعية.
والحقيقة المعروفة أن الرياضة والصلاة هما من الأدوية أو الوسائل الجسمانية والروحية لرفع هذا المرض العضال الذي قد يختلط أحيانا بالخبرة والتجربة السلبية فيساء استخدام الخبرة ممزوجة بمخلفات الإحباط، من هنا كان الشرط الإلهي إذا عزمت.. والعزم تلك القوة النفسية والإرادة الروحية التي لن تأتي إعتباطاً بل بعد سلسلة من الإثارة والصراع الفكري والتمحيص العقلي والنتيجة الإيجابية المرجوة من تلك السلسلة. والعزم زخم للروح والفكر والجسد وتوثب كل ما هو قادر على العطاء في جسم الإنسان بهرموناته وانزيماته وخلاياه وفكره وعقله لتجسيد قناعة معينة ومحددة. والعزم تصميم على الأداء والعطاء مهما كانت النتائج سلبية أم إيجابية.
ان النفس المحبطة متعددة المعالم متعددة السلبيات، والتردد في اتخاذ القرار والتردد أو التلكؤ في القيام بعمل ما هو إلا أحد معالم هذه النفس، ولربما نستطيع قياس وتدريج مستويات الإحباط فمن عالي الدرجات إلى متدني الدرجات، ولربما يكون التردد ناتجا عن مشاكل أخرى كالغموض وعدم المعرفة. وقد يكون ناتجا عن الحيرة بين قضاء الله وقدره، وقد جعل الله كلاً من العزم والتوكل علاجاً شافياً لهذا التردد الملازم لتلك النفوس، ولكن المشكلة قد تقع في حسابات ومستويات ذلك العزم فغالباً ما تكون النفس المحبطة ذات عزم ضعيف وحسابات مشتتة ولقطع دابر الضعف والتشتت في الحسابات، من هنا جعلت (الخيرة) في كتاب الله وبين آياته وسيلة من وسائل الحث وتوليد العزم لدى النفس وكثيراً ما تفيد هذه الخيرة بين آيات الله وسطور كتابه الكريم تلك النفوس الحائرة والمترددة بين قضاء الله وقدره فهي بذلك تستعجل القضاء والاستسلام له على القدر وبذلك تقطع الشك باليقين.
كيف يتكون العزم؟
ربما يكون السؤال الكبير من تلك النفوس المحبطة هو كيفية تكوين العزم السابق للتوكل؟ وهل يكون التوكل بدون عزم حلاً لمعضلة الإحباط النفسي؟
الحقيقة هي أن الله لن يرفض أو يرد من يلجأ أو يتوكل عليه عازماً كان أم بدون عزم "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة /186). ومع ذلك نجد أن النفس المحبطة بحاجة إلى عزم. أما كيفية تكوين ذلك العزم والإرادة فإن الآيات الكريمة في القرآن، والتي ترددت في عدد من المواقع تشير إلى أن الإيمان بالله والصبر والتقوى والانتماء لله وحفظ العهد وعدم النسيان والحلم والغفران هي كلها من مولدات ومكونات العزم السابق للتوكل والشافي من الإحباط النفسي. "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" (آل عمران /186)، " يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان /17) وليس مما يحتاج للإحصاءات الكمية أو البيانية وجود العزم مع الصبر والجلد وليس من قبيل الصدفة أن تكون درجة العزم لدى الإنسان الصبور أو القادر على الصبر أي المتصابر أعلى من درجته عند الإنسان الجزوع أو غير المتصابر ولذلك قرن الله وفقاً لحساباته ومعادلاته الإنسانية العزم بالصبر.
وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن تقترن التقوى بالعزم فالصبر على تنفيذ الأحكام الإلهية واطاعة الأوامر الإلهية والانتهاء عن نواهيه هي التقوى المرادفة للعزم. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن يكون غفران إساءة الآخرين والسكوت عن سلوكياتهم المؤذية أو المهينة أحياناً هو من أعلى درجات الصبر والتصابر واسمى درجات الجهاد النفسي ولا غرو أن يقترن ذلك الغفران الإنساني بكلٍ من التقوى والعزم المطلوب. وينهى ربنا عن الاستعجال لأنه مضاد للصبر وانتفاء للعزم فلا صبر ولا عزم للشخص العجول أو المتعجل بدون ضرورة.
فإن مع العسر..
العسر وجه من وجوه المواقف الصعبة التي يواجهها الفرد ولوحة من اللوحات المتكررة في مسيرة حياته وإفراز من إفرازات صراع الإنسان مع الحياة فالبطالة، المرض، العجز، الضياع، الخسارة، الفشل، والكآبة، . .. كلها مفردات للعسر الذي يواجهه الإنسان منذ ولادته وحتى مماته والعسر الذي يبدأ من الشوكة الواخزة للجسم وإن كان نسبياً لا ينتهي بحدود أو حالات معينة.
واليأس الذي يصيب النفس ويرهقها بظلاله ويخيم عليها بكوابيسه هو الآخر شكل من أشكال العسر ولربما الأسوأ منه، واليأس هو منتهى الإحباط ويمثل أقسى درجاته واعلاها هو أحد اوجه العسر أيضاً وقد تم استعراضه في الفقرة السابقة.
إن مواساة المعسر في كل حالاته البسيطة والحادة تمثل بلسماً يخفف من شدة العسر ووقعه على النفس. فكثيراً ما تنساب دموع الراحة النفسية الممزوجة بالأمل والفرحة عند انفراج العسر وانتفاء الضيق خصوصاً عند النساء وكبار السن، وكثيراً ما يكون وقع المواساة اشد واجمل إذا كانت محتوية على عنصر المفاجأة.
إن الوعد الإلهي بزوال العسر عن العبد والتأكيد على وجود اليسر واقترانه معه يمثل القطرة التي تروي عطشاناً يبس لسانه من العطش، وأملا يسعى إليه كل معسور الحال وطاقة حيوية تختزل كل شوائب الانهيار ومقومات اليأس. وسواء كان العسر جسمياً فيزياوياً أم نفسياً فإن سورة الانشراح الكريمة: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)" التي تؤكد آياتها على اقتران اليسر بعد العسر لشرح صدر المكروب وترفع عنه وزره وتفرج عنه همه الذي أثقل عليه عند قراءتها بصورة متتالية. إن الوعد الإلهي بزوال العسر وحلول اليسر هو الذي يحول اليأس إلى أمل والجزع إلى صبر وجلد ليستطيع العبد مواصلة مسيرته اليومية وينظر للحياة نظرة جديدة ملؤها التوجه لله.
إن تجارب الأفراد خلال مسيرتهم الحياتية مليئة بالأحداث الصعبة والمعاسر التي تنحني عندها الظهور وتقض المضاجع وتشيب لها الرؤوس ولكنها تنتهي وتزول بعد حين بالدعاء والتوسل والتوجه إلى الله جل شأنه، وليس هذا فقط بل إن مسلسل التجارب وقصص الأولين في القرآن الكريم تدل على ذلك فسيدنا أيوب عليه السلام إذ مسه الضر بمرض عضال عانى منه حوالي أربعة عقود، وسيدنا يونس عليه السلام إذ لبث في بطن الحوت لولا أن كان من المسبحين وسيدنا يوسف عليه السلام إذ رمي في الجب لولا السيارة التي أنقذته، و زكريا عليه السلام الذي بلغ منه الكبر عتيّاً وأخذ الشيب منه ماخذاً وامرأته التي كانت عاقراً فرزقه الرب بيحيى عليه السلام، وعسر سيدتنا مريم عليها السلام التي هزت إليها بجذع النخلة اليابس وانتهى العسر والغم فتساقط عليها رطباً جنياً، كلها تؤكد للفرد بأن معضلته هي واحدة من تلك المعضلات البسيطة والسهلة أمام الإرادة الإلهية، ومهما كانت فهي ليست بأكبر وأضخم من تلك التي قصها الله تعالى علينا وضرب بها الأمثال والحكم.
|
|