السيد نصر الله الحائري... الشاعر الشهيد
|
حسن هادي
من أساطين العلماء وكبار المجاهدين الشهداء أفنى عمره في خدمة الدين وترحل في البلدان الشاسعة لبث الحقيقة ونصرة الدين والمذهب وإقامة الحجة على المخالفين وهو مع ذلك من كبار الشعراء الذين تفانوا في مدائح العترة النبوية الطاهرة ومراثيهم، فجمع بين الفضيلتين وبرع فيهما وحاز الإكبار والإجلال بكل جدارة واستحقاق فكما اتسع نطاق بحثه العلمي حتى أهّله لأن يتصدر المناظرة مع علماء بغداد في النجف الأشرف حين جمعهم السلطان (نادر شاه) فقد أبدى مقدرة أدبية فذة فتجد ديوانه شاهداً على ذلك لما فيه من التفنن في الوصف والتنوع في البديع دل على سعة اطلاعه في أبواب الأدب وأمثال العرب.
هو أبوا لفتح عز الدين نصر الله بن الحسين ابن علي بن يونس بن جميل بن علم الدين بن طعمة ابن شرف الدين بن نعمة الله بن أبي جعفر أحمد ابن ضياء الدين يحيى بن أبي جعفر محمد بن شرف الدين أحمد المدفون في عين التمر والمعروف بـ (أحمد بن هاشم) بن أبي الفائز محمد ابن محمد بن أبي الحسن علي بن أبي جعفر محمد خير العمال بن أبي فويرة على المجدور بن أبي عاتقة أبي الطيب أحمد بن محمد الحائري بن إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم (ع).
ولد في كربلاء المقدسة حوالي عام 1100 للهجرة ودرس على يد كبار العلماء الأعلام وأجازوه بالرواية والاجتهاد لما عرفوا منه من النبوغ وتفيد تواريخ بعض الاجازات الى أن السيد نصر الله حاز الاجتهاد وهو حدث السن وممن اجازه بهذه الشهادة من العلماء الاعلام الشيخ محمد باقر النيسابوري والسيد محمد بن علي العاملي المكي وأبو الحسن الشريف العاملي والسيد نعمة الله الجزائري والشيخ علي بن جعفر بن علي البحراني وغيرهم وقد تصدر السيد نصر الله للتدريس وتتلمذ عليه طائفة كبيرة من العلماء منهم السيد محمد بن أمير الحاج والشيخ علي بن أحمد العاملي والشيخ أحمد بن حسن النحوي والسيد حسين بن مير رشيد الرضوي الذي جمع ديوانه.
يقول استاذه المحقق السيد حسن الصدر في كتابه (تكملة أمل الآمل) بعدأن يذكر الكثير من الأعلام الذين يروي عنهم السيد نصر الله: (وأما من يروي عنه فجماعة كثيرة أكثر من أن يحصوا يعرفهم الواقف على الإجازات)، ويقول الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء عنه: (كان مجموعة كمالات، وآية من الآيات، ودعامة من دعائم الدين، وركناً من أركان الشرع المبين) وقال عنه صاحب (الحصون المنيعة) بعد أن أثنى عليه وذكر ترجمته وأسفاره: (كان آية في الفهم والذكاء وحسن التقرير وفصاحة التعبير مقبولاً عند المخالف والمؤالف) ويقول عنه السيد عبد الله التستري: (السيد الجليل النبيل المحقق المحدث نصر الله بن الحسين الموسوي الحائري المدرس بالروضة المنورة الحسينية قدس سره كان آية في الفهم والذكاء وحسن التقرير وفصاحة التعبير شاعراً أديباً له ديوان حسن وله اليد الطولى في التاريخ و المقطعات وكان مقبولاً عند المخالف والمؤالف) الى أن يقول: (وكان يدرس الاستبصار ويجتمع في مدرسته جمع غفير من الطلبة إعجاباً منهم لحسن خلقه ومنطقه) كما ترجم له عصام الدين العمري الموصلي في (روض النظر) فقال ما نصه: 0العلامة السيد نصر الله الحائري:
وحيدٌ أريبٌ في الفضائل واحد غدا مثل بسم الله فهو مقدم
إذا كان نور الشمس لازم جرمها فطلعته الزهراء نور مجسم
واسطة عقد بيت السيادة وأكليل هام النجابة والسعادة تجسم من شرف باهر وكرم سعى إليه الظلف والحافر...الخ) سافر السيد نصر الله الى قم سنة 1142 للهجرة واتصل به علماؤها فقضى هناك برهة من الزمن وفيها نال إعجاب العلماء والعارفين وللسيد نصر الله تصانيف منها كتاب (الروضات الزاهرة في المعجزات بعد الوفاة) وكتاب (سلاسل الذهب المربوطة بقنادين العصمة الشامخة الرتب) ورسالة في (تحريم التتن) وذكر الحجة الكبير الشيخ المحقق أغا بزرك الطهراني في (الكواكب المنتثرة) في ترجمة السيد نصر الله فقال بعد أن ذكر نسبه الشريف: (المدرس الشهيد قبل سنة 1168 للهجرة وله تقريظ الكرارية لناظمها الشيخ شريف بن فلاح الكاظمي).
وإضافة الى هذه الكتب فللسيد نصر الله ديوان حافل بفنون الشعر وهو شاهد صدق على علو منزلته الأدبية وقد نهج فيه على نهج الشاعر صفي الدين الحلي الذي عرف بفنونه الأدبية من البديع والجناس و التورية والى غير ذلك من أنواع البديع ففي قصيدة المناجاة في مدح الرسول الأكرم (ص) وآله الكرام (ع) يلتزم في سائر قوافيها جناس القلب يقول فيها:
أيا رب (بالمختار) صفوتك الذي به فرقة الإسلام في الحشر ناجيهْ
و (بالمرتضى) السامي الذي من كلامه جميع الورى زهر المعارف جانيهْ
وبالبضعة (الزهرا) التي أمة الهدى شفاعتها يوم القيامة راجيهْ
و (بالحسن) الطهر الزكي الذي غدت مودته في أبحر الخطب جاريهْ
وبالطاهر الزاكي (الحسين) الذي غدت عليه كلاب للغواية عاويهْ
وبالعابد (السجاد) ذي الثفنات من له إذن نقر الملائك واعيهْ
و (بالباقر) العلم الذي كلماته لألباب أرباب الجهالة شافيهْ
و (بالصادق) القول الجزيل الندى الذي فضايله بين البرية فاشيهْ
و(بالكاظم) الغيظ العليم الذي عدا عليه الغوي الكلب (فليدع ناديهْ)
وبالماجد المولى (علي الرضا) الذي قطوف نداه للمؤمل دانيهْ
وبالناسك البر (الجواد) الذي غدا بطيب شذاه مرخصاً كل غاليهْ
وبالزاهد (الهادي) الى الرشد الذي بمجلسه لم تسمع الأذن لاغيهْ
وبالعسكري المجتبى (حسن) الذي مناقبه بالأنجم الزهر هازيهْ
و(بالقائم) المهدي رب البها الذي به روضة الإيمان تصبح زاهيهْ
أجرنا من النيران يوم معادنا فما أم من يهوى الأئمة هاويهْ
وله قصيدة عصماء تعد من غرر قصائده في حق أمير المؤمنين (ع) قالها عند تذهيب القبة الشريفة للمرقد العلوي الطاهر ولجودتها فقد خمسّها تلميذه الشاعر الشيخ أحمد النحوي يقول فيها:
إذا ضامك الدهر يوماً وجارا فلذ بحمى أمنع الخلق جارا
علي العليّ وصنو النبي وغيث الولي وغوث الحيارى
هزبر النزال وبحر النوال وبدر الكمال الذي لا يوارى
وفي رثاء الإمام الشهيد الحسين (ع) يقول:
هلّ المحرم فاستهل دموعي وأثار نار الوجد بين ضلوعي
وأمات سلواني وأحيا لوعتي وأطال أحزاني وروّع روعي
ثم يقول:
أتموت عطشاناً وكفك سحبها كم أنبتت للناس زهر ربيع
لو كنت مثلي ذات حزن صادق لأفضت دمع العين كالينبوع
يامن تباكى مثل من يبكي دماً (فضح التطبّع شيمة المطبوع)
وله قصيدة يجاري فيها قصيدة الشريف الرضي المقصورة في رثاء سيد الشهداء (ع) يقول فيها:
واوحيداً لم يغمض طرفه كف ذي رفق به في كربلا
وا شهيداً دمه كالمسك في طيبة قد أفعم الجو شذى
وا صريعاً أوطأوا خيلهم أي صدرٍ منه للعلم حوى
واطريحاً في الثرى وهو أبن من قاب قوسين من الله دنا
كما ضم الديوان عدة تخاميس ومجاراة منها قصيدته التي خمس بها القصيدة الميمية الشهيرة للفرزدق في حق الإمام زين العابدين (ع) يقول فيها:
هذا الذي ضمن القرآن مدحته هذا الذي ترهب الآساد صولته
هذا الذي تحسد الأمطار راحته هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل و الحرم
هذا ابن من زينوا الدنيا بفخرهمُ وأوضحوا ديننا في صبح علمهمُ
وأخصبوا عيشنا في قطر جودهمُ هذا ابن خير عباد الله كلهمُ
هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
ويقول في مدح الإمام علي بن موسى الرضا (ع):
كهف الحجى الزاكي علي الرضا نور الهدى الساطع خير العباد
سليل موسى آية الله و الهادي الى الحق وباب الرشاد
بحر نوال قد غدا ضامناً لزائريه الفوز يوم المعاد
كما احتوى الديوان على بعض التشطيرات والبنود والأراجيز.
كان السيد نصر الله مصداقاً لقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا" فقد أفنى عمره في خدمة الدين والمذهب حتى مضى شهيداً في سبيل ذلك، فقد سافر الى إيران ومكث في مدينة قم المقدسة يدرّس كتاب الاستبصار ثم الى مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى استشهاده في (إسلامبول) في سبيل الدعوة الى الحق، وقصة استشهاده كما يرويها المؤرخون أنه زار النجف الاشرف سلطان إيران (نادر شاه) سنة 1156 للهجرة فجمع علماء المذاهب على أن يحققوا بأن الاسلام يبتني على خمسة مذاهب فعقدوا الاتفاق على ذلك وأقاموا الجمعة والجماعة في مسجد الكوفة يؤمهم ويخطبهم السيد نصر الله ثم أرسله السلطان مع هدايا وتحف الى الحرمين الشريفين إتماماً لذلك الأمر فذهب ورجع ثم زار السلطان النجف الاشرف مرة ثانية وأجتمع بالسيد نصر الله وارسله سفيراً الى (القسطنطينية) في أيام السلطان محمود العثماني لإمضاء الاتفاق المتقدم الذكر ولكن الوشاة والحاقدين دبروا مؤامرة دنيئة وحاكوا خيوطها وأوغروا صدر السلطان على السيد نصر الله فأغتاله هناك فسقط شهيداً محتسباً ودفن هناك.
|
|