مصر الفاطمية.. الجامعة الاسلامية الكبرى
|
*حسن هادي
لم يعرف التاريخ دولة اهتمت بالعلم واحتضان العلماء وتشجيع طلاب العلم والاهتمام بالعلوم المختلفة كالدولة الفاطمية حيث اصبحت القاهرة في عهد الفاطميين محط انظار العلماء ومطمح طلاب العلم حتى استطاعت بحق ان تكون عاصمة للعلوم والمعارف الاسلامية. وفضلا عن ما حققته دولة الفاطميين في الميادين العلمية والفكرية والادبية من انجازات عظمية فقد سطعت ايضا في ميدان النضال والجهاد والدفاع عن الاسلام و وحدة المسلمين، وحملت راية الاسلام عاليا وهي تصد هجمات الروم والبيزنطينيين في الوقت الذي كان حكام الاندلس يحرضون عليهم الافرنج ويستعينون عليهم بهم.
والحديث عن الجوانب المضيئة للدولة الفاطمية يحتاج الى دراسات مطولة نقل بعضها الباحثون فكانت صور مشرقة في سجل التاريخ الاسلامي والانساني، وسيقتصر حديثنا في هذه السطورعلى نبذة من الحياة العلمية الزاخرة التي عاشتها مصر إبان حكم الفاطميين. فلم يعرف العالم انفتاحاً على العلم في شتى مجالاته كما عرفته مصر يقول الدكتور محمد كامل حسين الاستاذ في جامعة القاهرة: (وكان الفاطميون يهتمون بالدراسة الفلسفية في الوقت الذي كان فيه غيرهم في البلاد الاخرى يرمون من يشتغل بالفلسفة بالزندقة والالحاد)، فكان الخلفاء الفاطميون يقربون العلماء في شتى مجالات العلم وقد أوقفوا أرزاقا ثابتة عليه لكي يتهيأ لهم الاشتغال بالعلم والتفرغ له، كما كانت الحرية الفكرية هي السائدة في عهدهم، اذ تسامح الفاطميون مع العلماء من كل المذاهب فأخذت الحركة العلمية تنمو وتزدهر في مصر الفاطمية في كل نواحيها وفنونها فكانت حلقات الدروس في المساجد أو الدور في القاهرة والفسطاط والاسكندرية وتنيس في الشمال وفي اسوان وقوص في الجنوب قائمة على قدم وساق، والعلماء وطلاب العلم يقيمون هذه الدروس ويخوضون مجال التأليف والتصنيف بكل حرية وامان فضلا عن ذلك فقد كان أُمراء الاقاليم يحتضنون العلماء والشعراء ويكرموهم فاصبحت مصر عبارة عن جامعة علمية وفكرية وادبية كبرى أخذ عنها الكثير من علماء الشرق والغرب.
يقول الدكتور مصطفى مشرفة احد اساتذة جامعة القاهرة: (كان للمالكية في الازهر الفاطمي خمس عشرة حلقة وللشافعية مثلها ولاصحاب ابي حنيفة ثلاث حلقات) وعندما أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بعمارة دار العلم ونقل اليها الكتب من القصر اسكنها من شيوخ السنة شيخين احدهما ابو بكر الانطاكي وخلع عليهما وقربهما.
وقد أخذ الفاطميون على عاتقهم منذ الايام الاولى لحكمهم خطة ان يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم والمعرفة وخططوا لسياسة علمية شاملة ترتكز على انشاء جامعة كبرى ثم على تهيئة الاجواء المناسبة للعلماء فلا يشغلهم شاغل العيش عن الانصراف الى العلم ولا يلهيهم الفقر والعوز عن التوسع في البحث والدرس فجعلوا لهم موارد من الرزق تضمن لهم اليعش الكريم ثم ارسلوا يستدعون العلماء من الخارج وقد اشتد هذا المنهج واتسع وقوي بعد اقامة الوحدة بضم البلاد الاخرى الى مصر وانشاء القاهرة واقامة الازهر وذلك بتخصيص كراسي لتدريس كل المذاهب الاسلامية في جامعتهم الكبرى فكان لكل مذهب حلقاته الدراسية وكان عدد الطلاب يتفق مع انتشار ذلك المذهب في مصر والبلاد القريبة منها كما عمل الفاطميون على استقطاب العلماء من البلاد الخارجية عن النفوذ الفاطمي واستدعائهم والضمان لهم بالعيش الكريم.
والذي يلفت الانتباه هو ان جميع العلماء الذي استدعوا من قبل الفاطميين او وفدوا اليهم فاكرموهم و وفروا لهم التفرغ للعلم كانوا على غير مذهب الفاطميين ولا يسعنا في هذا المقال القصير الالمام باسماء هؤلاء العلماء وسنقتصر على النزر اليسير منهم فمنهم عبد السلام القزويني شيخ المعتزلة الذي وفد على مصر فأقام فيها اربعين عاماً يلقي تعاليم مذهبه ومنهم القاضي ابو الفضل محمد البغدادي إمام الشافعية (ت 441)، وابو الفتح سلطان بن ابراهيم الفلسطيني (518) وابو الحجاج يوسف الميوقي (523) وجلى بن جميع المخزومي (550) والقاضي علي الموصلي الخلعي (448) وابو محمد عبد الله السعدي (561) فقهاء المالكية محمد بن سليمان المعروف بأبي بكر وكانت حلقته في الازهر تدور على سبعة عشرة عمودا لكثرة الطلاب الذين كانوا يقصدونه والفقيه المالكي عبد الوهاب بن علي (422) والذي وصفه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) بأنه لم ير في المالكية افقه منه وعبد الجليل مخلوف الصقلي (459) وابو بكر الطرطوشي (525) وغيرهم الكثير والارقام التي ذكرناها في تاريخ وفاة هؤلاء العلماء وهذا يبين أن الخلفاء الفاطميين كانوا جميعهم يسيرون على نفس سياسة التسامح مع المذاهب الاخرى بل وجد هؤلاء العلماء من الحفاوة والتكريم ما لم يجدوه في البلاد التي يحكمها حكام من نفس مذهبهم فكان الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله يغص مجلسه بجماعة من العلماء المتخصصين في كل علم من الفقاء والاطباء واهل الحساب والمنطق والعلوم الاخرى فيجتمعون عنده للمذاكرة ثم يخلع الحاكم على الجميع ويصله ويكرمه واشهر هؤلاء العالم ابن الهيثم الذي احتضنه الخليفة وقربه.
كما تفرد الفاطميون بإنشاء دور الكتب الكبرى، وبلغت تلك الدور حداً لم يعرف له مثيل في التاريخ فقد كانت مكتبة القصر وحدها تضم (601000) كتاب من امهات الكتب منها بخط مؤلفيها ، مثل (تاريخ الطبري) و (العين) للفراهيدي وقد توسع الحاكم بشأن دور الكتب وحرص على تسهيل وصول الجميع اليها.
|
|