(أم البنين) في ذكرى وفاتها..
مشعل الوفاء ينير ظُلمة التاريخ
|
*زهراء محمد علي
كيف تتعلم الأجيال الدروس والعبر لحياتها من الأبطال والأفذاذ في سوح الجهاد والعلم؟ هل من خلال صفحات التاريخ؟ الجواب يأتي من خلال المقارنة بين رموز تاريخية تسطع في وقتنا الحاضر، وبين حصتها من تلكم الصفحات، وعندما نتفاجأ بالفقر المدقع والشديد لصفحات التاريخ من تلكم الرموز والشخصيات العظيمة، نعرف مدى تخلّف التاريخ بل وظلمه.
من تلك الشخصيات العظيمة الغائبة في التاريخ الى حدٍ ما، والحاضرة دائماً بيننا، هي فاطمة الكلابية زوجة أمير المؤمنين (عليه السلام)، المعروفة بـ (أم البنين). فهي حاضرة في الوجدان والقلوب، بل في النسيج الايماني لاتباع أهل البيت (عليهم السلام). لكن المشكلة إن ذكرها لا يرد إلا من خلال المنابر وفي مناسبات خاصة، وهذا بحق يُعد إجحافاً كبيراً في حق هذه السيدة الكريمة والمضحية.
*المولد والنشأة
هي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية، أمها ثمامة بنت سهل الكلابية. وبنو كلاب عشيرة من العرب الأقحاح، شهيرة بالشجاعة والفروسية، ولدت في السنة الخامسة للهجرة الشريفة على أشهر الروايات. وتزوجت من أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد سنة 24 للهجرة الشريفة، وذلك لأن الامام (عليه السلام) تزوجها بعد إمامة بنت زينب على أشهر الروايات، وذلك بناءً على وصية من الصديقة الزهراء (عليها السلام) قبل وفاتها.
نشأت أم البنين في حضانة والدين شفيقين حنونين هما حزام بن خالد بن ربيعة، وثمامة بنت سهيل بن عامر، وكانت ثمامة أديبة كاملة عاقلة، فأدبت ابنتها بآداب العرب وعلمتها بما ينبغي أن تعلمها من آداب المنزل وتأدية الحقوق الزوجية.
*الى بيت أمير المؤمنين (عليه السلام)..
روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل (رضي الله عنه) وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: أنظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً فقال له: تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها.
يروى أن فاطمة قالت لأمها ذات يوم أني رأيت في منامي كأني جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة وأنهار جارية وكانت السماء صاحية والقمر مشرق والنجوم ساطعة وأنا أفكر في عظمة خلق الله من سماء مرفوعة بغير عمد وقمر منير وكواكب زاهرة، فبينما كنت في هذا التفكير ونحوه وإذا أرى كأن القمر قد انقض من كبد السماء و وقع في حجري وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار، فعجبت من ذلك وإذا بثلاثة نجوم زواهر قد وقعوا أيضاً في حجري وقد أغشى نورهم بصري فتحيرت في أمري مما رأيت وإذا بهاتف قد هتف بي أسمع منه الصوت ولا أرى الشخص وهو يقول:
بشـراك فاطــمة بالسادة الغـرر ثـلاثة أنجـم والـزاهر القمـر
أـوهم سـيد في الخلـق قاطبة بعد الرسول كذا قـد جاء في الخبـر
فلما سمعت ذلك ذهلت وانتبهت فزعة مرعوبة، هذه رؤياي يا أماه فما تأويلها
فقالت لها أمها يا بنية ان صدقت رؤياك فانك تتزوجين برجل جليل القدر رفيع الشأن عظيم المنزلة عند الله مطاع في عشيرته، وترزقين منه أربعة أولاد يكون أولهم وجهه كأنه القمر وثلاثة كالنجوم الزواهر.
فلما سمع حزام ذلك أقبل عليهما وهو مبتسم ويقول يا بنية قد صدقت رؤياك فقالت له أمها وكيف علمت ذلك قال هذا عقيل بن أبي طالب جاء يخطب ابنتك قالت لمن قال لفلال الكتائب ومظهر العجايب وسهم الله الصائب وفارس المشارق والمغارب الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، عندها ذهب حزام إلى عقيل وهو مستبشر فقال له عقيل ما وراءك قال كل الخير إن شاء الله قد رضينا بأن تكون ابنتنا خادمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال عقيل لا تقل خادمة بل قل زوجة.
عاشت فاطمة الكلابية في دار أمير المؤمنين وهي تستقي من أنوار أهل البيت (عليهم السلام)، وتنهل من ذلك المعين خلقاً وإيماناً وعقيدة راسخة، حتى تحقق الحلم بمولد قمر بني هاشم وأخوته الثلاثة؛ عبد الله وعثمان وجعفر، وهنا نتساءل؛ ما الذي ميّز فاطمة الكلابية عن أية زوجة أب أخرى تنشر الحنان وتحمل الصدق والامانة؟
صحيح كانت فاطمة كأية إمرأة أخرى بين المسلمات، لكنها لم تكن كأية أم أخرى! فالمعروف عن الأم حنانها وعاطفتها الجيّاشة نحو ولدها، وهي مسألة غريزية وفطرية لا تُلام الأم عليها بأي حال من الأحوال، لكن عندما يقاوم الانسان غريزته ويتمكن من تطويعها حتى وإن كانت مشروعة وطبيعية، ومن أجل هدفٍ سامٍ، فانه لاشك سيرتقي ذرى المجد والعلا، وهي معادلة نعرفها من خلال الحديث الشريف ما مضمونه بأن المؤمن الحقيقي خير من الملائكة.
نحن نسمع عن تلك المحاورة التي وقعت بين أم البنين (رضوان الله عليها) وبين الشاعر بشر بن حذلم الذي أرسله الامام زين العابدين (عليه السلام) لينعى له أباه في المدينة، لكن من الصعب المستصعب على كل إمرأة أن تتقمص شخصية أم البنين في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة، بأن تغض النظر عن مصير أولادها الأربعة وتتلهف لسماع خبر ابن زوجها، وهذا ما حصل فعلاً عندما لم يرف لها جفن وهي تسمع من ابن حذلم نبأ استشهاد العباس وإخوته، لكنها انهارت عندما سمعت نبأ استشهاد الامام الحسين (عليه السلام)، هذا الموقف الكبير من الانسانة الكبيرة، لا يثمنه سوى إمرأة كبيرة عظيمة أيضاً هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء، عندما أضفت على أم البنين من كراماتها وفيوضاتها منذ تلك اللحظة وحتى يومنا الحاضر والى يوم القيامة. فاصبحت هذه السيدة باب توسل مجرّب الى الله تعالى في حلّ العقد المستعصية والشدائد والملمّات.
*الهوامش
1 - راجع تذكرة الخواص: ص 168
2- كشف الغمة: ج 1 ص 442.
|
|