(العُسر) .. بين الأمل بالمواساة الاجتماعية والرجاء بالفرج
|
*يونس الموسوي
العسر وجه من وجوه المواقف الصعبة التي يواجهها الفرد ولوحة من اللوحات المتكررة في مسيرة حياته وإفراز من إفرازات صراع الإنسان مع الحياة، فالبطالة - المرض - العجز - الخسارة - الفشل... كلها مفردات للعسر الذي يواجهه الإنسان منذ ولادته وحتى مماته. والعسر الذي يبدأ من الشوكة الواخزة للجسم وإن كان نسبياً لا ينتهي بحدود أو حالات معينة.
واليأس الذي يصيب النفس ويرهقها بظلاله ويخيم عليها بكوابيسه هو الآخر شكل من أشكال العسر ولربما الأسوأ منه، واليأس هو منتهى الإحباط ويمثل أقسى درجاته واعلاها وهو أحد أوجه العسر أيضاً وقد تم استعراضه في الفقرة السابقة.
إن مواساة المعسر في كل حالاته البسيطة والحادة تمثل بلسماً يخفف من شدة العسر و وقعه على النفس. فكثيراً ما تنساب دموع الراحة النفسية الممزوجة بالأمل والفرحة عند انفراج العسر وانتفاء الضيق خصوصاً عند النساء وكبار السن، وكثيراً ما يكون وقع المواساة أشد واجمل إذا كانت محتوية على عنصر المفاجأة.
إن الوعد الإلهي بزوال العسر عن العبد والتأكيد على وجود اليسر واقترانه معه يمثل القطرة التي تروي عطشاناً يبس لسانه من العطش، وأملاً يسعى إليه كل معسور الحال وطاقة حيوية تختزل كل شوائب الانهيار ومقومات اليأس.
وسواء كان العسر جسمياً فيزياوياً أم نفسياً فإن سورة الانشراح الكريمة: "ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، الذي انقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا" التي تؤكد آياتها على اقتران اليسر بعد العسر لشرح صدر المكروب وترفع عنه وزره وتفرج عنه همه الذي أثقل عليه عند قراءتها بصورة متتالية. إن الوعد الإلهي بزوال العسر وحلول اليسر هو الذي يحول اليأس إلى أمل والجزع إلى صبر وجلد ليستطيع العبد مواصلة مسيرته اليومية وينظر للحياة نظرة جديدة ملؤها التوجه لله.
إن تجارب الأفراد خلال مسيرتهم الحياتية مليئة بالأحداث الصعبة والعسيرة التي تنحني عندها الظهور وتقض المضاجع وتشيب لها الرؤوس ولكنها تنتهي وتزول بعد حين بالدعاء والتوسل والتوجه إلى الله جل شأنه، وليس هذا فقط بل إن مسلسل التجارب وقصص الأولين القرآنية تدل على ذلك فبالنبي أيوب عليه السلام، إذ مسه الضر بمرض عضال عانى منه حوالي أربعة عقود، والنبي يونس إذ لبث في بطن الحوت لولا أن كان من المسبحين والنبي يوسف عليه السلام، إذ رُمي في الجب لولا السيارة التي أنقذته، والنبي زكريا عليه السلام لذي بلغ منه الكبر عتياً وأخذ الشيب منه مأخذاً، دون أن يكون له ولد يخلفه، وامرأته التي كانت عاقراً فرزقه الله تعالى بالولد الصالح (يحيى)، وعسر سيدتنا مريم التي هزت إليها بجذع النخلة اليابسة واذا بها تساقط عليها رطباً جنياً، وغيرها من القصص والتجارب الكثيرة، كلها تؤكد للانسان بأن معضلته هي واحدة من تلك المعضلات البسيطة والسهلة أمام الإرادة الإلهية، ومهما كانت فهي ليست بأكبر وأضخم من تلك التي قصها الله تعالى علينا وضرب بها الأمثال والحكم.
تجارب طبية
الحقيقة أن سورة الانشراح لا تخاطب الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، فقط بل تخاطب كل المسلمين والمؤمنين ولا تبشرهم بانشراح الصدر وإزالة الهم والغم عن الصدور فقط، بل تطالبهم أيضاً بالتوجه إلى الله تعالى وذكر نعمته التي أنعم بها على الفرد، "فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب" (سورة الانشراح / 7و8). وهذه المطالبة وبهذا الأسلوب لا تؤكد فقط على أن بعد العسر يسراً بل تحسب ذلك من المسلمات المفروغ منها، وإلى ذلك يشير كل من الدكتور أنور طاهر رضا والدكتورة أمل المخزومي أستاذا علم النفس في جامعة فارينوس وأزمير في تركيا حالياً إلى أن الاستفادة من هذه الآية بالذات وسورة الانشراح عموماً. وتأثيرها النفسي حتى في العلاج السريري النفسي بلغ حدود 96% من مجمل الأشخاص الذين اشتركوا في استبيان دراسي في إحدى التجارب للعلاج النفسي من المعضلات المزمنة التي تحيق بالفرد المسلم.
صحيح أنه لا يوجود مقياس كمي لقياس درجة الانشراح والتوكل لدى المريض إلا أن المقارنة بين أفراد العينة الخاضعة للتجربة وممن يدينون بالإسلام مع غيرهم الذين لا يدينون بالإسلام والخاضعين لنفس التجربة والعلاج النفسي السريري تشير إلى قوة تأثير سورة الانشراح عموماً والآيتين: "فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسرا" خصوصاً على النفس المؤمنة وذلك ما يؤكد قوله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" (سورة الإسراء /82).
وليست الراحة النفسية فقط والعلاج هو الذي استحصله المسلم من هذه السورة وآياتها بل أيضاً القوة النفسية على مجابهة العسر، فالصبر والجلد على العسر والأمل والتوقع لحصول اليسر هما من سمات الإيمان بهذه الآيات وتلاوتها عند كل معضلة، وإذ تؤكد تلاوتها ضمنياً على الانتماء لله جل وعلا والرجوع إليه دون سواه وهذا هو والله عين عدم الشرك به.
المعاناة تجربة
وقد يطول العسر وتطول تجربته وتطول المعاناة النفسية من جراء ذلك، وفي ذلك احتكاك وخبرة وفتنة من الله العزيز الحكيم لعبده ليرى إن كان من الصابرين الشاكرين أم لا؟ وفي ذلك أيضاً تقوية للجسم والنفس لرفع درجة عزيمتها في المحن والشدائد، ولكن مع كل ذلك فإن اليسر ليس ببعيد. وإن طال العسر ويعلم الله أنه قد يطول ويطول فهو يخبرنا بل ويأمرنا بألا نيأس من رحمته إذ قال تعالى: "ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" (سورة يوسف / 87). فإن رحمته تطال وتسع كل شيء وما هذا العُسر إلا ذرّة في بحر متلاطم من مشاكل البشرية أو مشاكل المخلوقات أجمعين.
ولا نستطيع الجزم بأي حال من الأحوال بأن سورة الانشراح كافية لعلاج المعسور من العباد وشافية لمرضه النفسي بل أن الدعاء الموجه لله تعالى والتوكل عليه يكمل ذلك العلاج النفسي فقراءة الآية: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" (سورة النمل /62)، وتكرارها عدداً من المرات بتوجه خالص لله فقط تكمل وعد الله لعباده برفع العسر وإنزال اليسر. وهذا ما نؤكده للقارئ الكريم وهو التوجه الخالص وعدم اليأس من رحمة الله تعالى. نعم؛ نؤكد على التوجه الخالص لله وعدم اليأس من رفعه.
|
|