إشكاليات التعليم في العراق وضرورات المعالجة
|
علي كاظم داود
التعليم في العراق ينوء بإشكاليات ضخمة وتركات وخيمة وتأخر زماني عمّا يفترض أنه وصل إليه في وقتنا الحاضر.. فإذا ما عقدنا مقارنة بسيطة بين راهن التعليم عندنا وبين مدى التطور الحاصل لدى الدول المجاورة فسوف يعترينا الإحباط، وهو ما انسحب على مدى الوعي العام في هذه الدول وما يمكن تلمّسه في الحراك العلمي والثقافي لدى نُخبِها وحتى لدى طبقاتها الوسطى، وهو نتاج حتمي ودليل على ارتفاع مستوى جدوائية التعليم هناك. وثمة أمور باتت من المتسالم عليها في مؤسساتنا التعليمية وهي من الفايروسات الخطيرة التي ان لم تكافح سريعاً فانها ستستمر في نخر التعليم، بوصفه مُخلّقاً لروح الوعي والابداع الاجتماعي، ويغدو هيكلاً قد يقوم المسؤولون بتجميله وتزويق شكله لكنه مُفرّغ من المحتوى.
من أبرز الظواهر المستبدة في مختلف مفاصل التعليم، وبالأخص منها الابتدائية والمتوسطة والثانوية، هي: الزيادة المفرطة في أعداد الطلاب، فقد يصل العدد في الصف الواحد إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف العدد الافتراضي، أي قد يبلغ طلاب أحد صفوف المرحلة الإعدادية إلى خمسين أو ستين طالباً أو أكثر في بعض الحالات، وقد يتجاوز الرقم هذا الحدّ في المدارس المتوسطة والابتدائية، بسبب صغر أجسام تلاميذها، فينحشر في كل مقعد ـ مخصص في الأصل لطالبين ـ أربعة طلاب، ويمكن تخيّل العواقب الكثيرة لهذه الجزئية في العملية (التربوية!!) والتعليمية.. ورغم كبر الطلاب في المرحلة الإعدادية وصغر القاعات الدراسية وتأثير هذا العدد على إمكانية المُدرس في إيصال المادة بشكل مثالي أو بشكل مقبول على الأقل، ليس في الأمر خيار لدى المدارس سوى تمشية الحال كيفما اتفق وتكديسهم بعضهم فوق البعض الآخر، أملاً في أن تأتي يد المستقبل بحلول ربما يصفها البعض إن تحققت بأنها (معجزة).سبب هذه العقدة لا يتعدى أمرين هما في حقيقتهما مشكلتان من مشاكل التعليم:
الأمر الأول هو: بناية المدرسة التي لن تتوافق في الغالب مع الزيادة السكانية في المناطق المغذّية لها، فالمدرسة التي كانت تفي بالغرض قبل عشر سنوات لن تكون كذلك في هذا العام أو حتى قبل ذلك، ففي كل عام ثمة زيادة مطردة في أعداد الدارسين مما يستدعي وضع خطط لبناء مدارس تغطي هذه الزيادة، وبما ان هذه الخطط شبه معدومة تضطر المدارس إلى استيعاب أعداد تفوق طاقتها. أما وقد وصل الأمر إلى الحد الذي لا يمكن تحمله عمدت العقلية التربوية إلى ابتكار نظام المدارس المزدوجة، أي أن تكون في البناية الواحدة مدرستان ومن ثم ثلاث مدارس تتناوب فيما بينها في أوقات الدوام، وهذا وان كان علاجاً من نوع ما إلا انه سبب مشاكل أخرى منها تقليل أوقات الدوام وبالتالي أوقات الدروس مما يؤثر على استيفاء المادة العلمية، وكذلك إجبار الطلاب على الدوام في فترات الظهيرة الحارقة، وغيرها من السلبيات.
الأمر الثاني هو: قلة الكوادر التدريسية في بعض الاختصاصات المهمة، وبالذات في المواد العلمية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء) واللغة الانكليزية على وجه الخصوص، حيث يعزف حملة الشهادات في هذه الاختصاصات عن الانخراط في سلك التعليم ويفضلون التعيين في دوائر ووزارات أخرى لأنها تمنحهم رواتب وامتيازات ومحفزات تفوق بكثير ما قد تمنحهم إياه وزارة التربية والتعليم، فتضطر إدارات المدارس إلى دمج عدة صفوف من المرحلة الواحدة لكي يتمكن المدرس المتوفر لديها في اختصاص معين من تغطية كامل المدرسة، فإذا أولت وزارة التربية كوادرها اهتماما ستحل هذه المشكلة التي لا يمكن وصفها بالمستعصية. هذان الأمران الإشكاليان سبّبا لنا زيادة أعداد الطلاب في اغلب المدارس وايجاد الحل لهما مناط بالجهات الحكومية من خلال بناء المدارس الحديثة وجذب الكوادر في الاختصاصات المطلوبة.
الآفة الخطيرة الأخرى التي أخذت تنخر التعليم في العراق هي انفتاح الباب واسعاً لدخول مختلف وسائل الترفيه التي حرم منها أغلب العراقيين طويلاً، وهذا الأمر وان كان مطلوباً ومرغوباً في ذاته إلا ان أبناءنا التلاميذ والطلبة لا يمتلكون قدراً كافياً من الوعي يجعلهم يمتنعون عن اللهو والترفيه لحساب التوجه الجدي للدراسة أو تنظيم وقتهم لمصلحة تقدمهم العلمي، في مقابل جفاف أو ثقل المادة الدراسية على نفس الطالب، واخذت اللامبالاة مأخذاً كبيراً من بعض العوائل فتركوا حبال أبنائهم على غواربهم.. ففي الزمن السابق كانت معظم العوائل تجبر أبناءها على الدراسة وتحثّهم على الاجتهاد فيها وحتى يصل الأمر إلى الضرب أحياناً خشيةً عليهم من الرسوب والوقوع في براثن التجنيد الإلزامي وبالتالي التهديد بالهلاك على الجبهات أو على الأقل قضاء عدة سنوات في الجيش الذي كان مجرد تصور أحواله يقضّ المضاجع.هذه الإشكالية (الترفيه) بدأت تؤثر كثيراً في تدني المستويات العلمية لدى الطلاب لأنها تأخذ الكثير من وقتهم وتفكيرهم وجهدهم على حساب ارتقائهم في التعليم، وللحد من تأثير هذه الظاهرة لا بدّ من العمل في اتجاهين علاجيين ينطلقان من أساسي الترغيب والترهيب. أولهما: أن يُعمد إلى جعل المدرسة مكاناً محبباً لدى جميع الطلاب واستخدام طرائق تدريس حديثة ترغّب الطالب في التفاعل معها والاندماج مع المادة العلمية واستخدام وسائل الايضاح الحديثة، وكذلك توفير وسائل ترفيه في داخل المدرسة، على الأقل ساحة خضراء في كل مدرسة لممارسة الرياضة وقاعة لممارسة الهوايات الفنية، إضافة إلى إعادة العمل بنظام إطعام الطلبة الذي له أهمية بالغة في تنشيطهم وإنعاش أذهانهم أثناء يومهم الدراسي المضني، وكذلك لا بد من العمل على إيجاد حصص خاصة وفق مناهج جديدة للتوعية حول أهمية القراءة والاطلاع وتوسيع الثقافة الفردية وتنمية الوعي والتفكير.وثانيهما: إيجاد أمور رادعة لمن يترك التعليم الإلزامي بدون أسباب مقنعة عبر تحديد غرامات أو إجراءات عقابية توجه إلى الطالب أو عائلته إذا ترك الدراسة أو أعاد في صفّه لسنة أو لسنتين بسبب من اهماله للدراسة.
الظاهرة السيئة الثالثة التي تنتاب التعليم في العراق وتؤثر فيه بشكل سلبي وإن كانت من خارجه هي عدم إيلاء الجهات الحكومية اهتمام خاص بقطاع التعليم ومنحه قيمة معنوية وفق ما يستحق، حيث أنه من أهم أسس بناء الدولة، مما ساهم في إضعاف قيمته في المجتمع، فبعدما كان المعلم أو المدرس في عهود ماضية يمتلك مكانة كبيرة في أوساط المجتمع، وهذا ما نسمعه عن مكانته الحالية في البلدان المجاورة أو غيرها، لكن فترة حكم النظام البائد هزّت هذه المكانة ولم تسعَ الحكومات التي حكمت بعد سقوط ذاك النظام إلى إعادة الاعتبار له.
آخر ما يمكن أن نضع الإصبع عليه دون أن يكون الأخير في سلسلة إشكاليات التعليم في بلدنا هو المناهج حيث ربما يتفق الجميع على عدم تناسبها مع التطور الحاصل في هذا العصر وكذلك عدم صياغتها بحيث تلبي ما يحمله العراقيون من تطلعات وأفكار لكي تتفاعل فيهم وتثير غرائزهم للإبداع، مما يحتم ضرورة السعي للتغيير في المناهج الدراسية وبشكل دائم نحو ما هو منشود.
|
|