الإمام الجواد(ع) في ذكرى استشهاده..
ترسيخ دعائم الإمامة و فضح الشعارات الكاذبة
|
*يونس الموسوي
سخر إبن تيمية من تنصيب الشيعة للإمام الجواد عليه السلام وهو إبن عشرة أعوام للإمامة مثلما سخر الذين قالوا لمريم عليها السلام: "فأشارت إليه قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا" (مريم /29)، الغرابة ليس في تكلمه وهو في المهد صبيا، الغرابة وكل الغرابة هو أنه اختير للنبوة وهو في هذا العمر، "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا" (مريم،30). كيف يكون نبياً وهو مازال في المهد صبياً؟ وكيف يؤدي الواجبات وهو بعد لم يبلغ الحلم؟ "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (مريم،31) .
ولو كان إبن تيمية قد ولد في عهد عيسى عليه السلام لكان أول كافر به، لأنه لايؤمن بنبوة أو إمامة طفل؟
وهنا أريد أن أسأل وأقول هل كانت إمامة الامام الجواد عليه السلام وهو في العاشرة من العمر أكثر غرابة؟ أم حديث عيسى عليه السلام في المهد أم نزول المَلك عليه؟ "إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً" (المائدة،110).
ولم يكن إبن تيمية وحده الذي سخر من الإمامية لأنهم نصبوا طفلاً إماماً عليهم، بل كان أحدهم في عصر الإمام الجواد عليه السلام، وكان زيدي المذهب، سندعه ليتحدث عما جرى له مع الإمام الجواد عليه السلام فيقول:
خرجت إلى بغداد فبينما أنا بها، إذ رأيت الناس يتدافعون ويتشرفون ويقفون فقلت من هذا؟
قالوا: إبن الرضا عليه السلام.
فقلت والله لأنظرن إليه، فطلع على بغلة، فقلت لعن الله أصحاب الإمامية حيث يقولون أن الله افترض طاعة هذا، فعدل إليّ وقال: يا قاسم بن عبدالرحمن: (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ) (القمر،24).
فقلت في نفسي: (ساحر والله).
فعمد إليَّ فقال: (أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (القمر،25)
قال: فانصرفت وقلت بالإمامة وشهدت أنه حجة الله على خلقه واعتقدت به.) (بحارالانوار،ج50، ص64).
من حق الإنسان أن يستغرب تنصيب صبي للإمامة، غير أنه ليس من حقه أن ينكر ذلك، إلا بعد الفحص والتحقيق، ويكفينا من هذه الأدلة ما جاء في القرآن في حق عيسى عليه السلام ويحيى عليه السلام إذ قال بحقه رب العزة: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" (مريم،12). فقد تولّى إمامنا الجواد مهام الإمامة وهو في سن الثامنة او التاسعة من العمر، واستمرت إمامته سبعة عشر عاما.
وإذ طالعنا شيئاً من السيرة لأصابنا الذهول من عظمة الإمام الجواد عليه السلام ومن علمه الزاخر أكثر مما يصيبنا من تنصيبه للإمامة، فإذا كانت النصوص القرآنية لاتتعارض مع تنصيب الإمام المعصوم للمواقع القيادية، فأن سيرته وهو في هذا العمر تفرض على الأمة أن لا تختار أحداً سواه للزعامة. كيف ذلك؟
لمّا عزم المأمون تزويج إبنته أم الفضل للإمام الجواد عليه السلام أعترضه العباسيون خوفاً من إنتقال الخلافة إلى بني فاطمة، فاجتمع من أهل بيته الأقربون وقالوا له: نناشدك الله يا أميرالمؤمنين ألا تقدم على هذا الأمر الذي عزمت من تزويج إبن الرضا عليه السلام، فإننا نخاف أن يخرج به عنا أمرقد ملّكنا الله عزّوجل، وينزع منا عزاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وقد كنا في خشية من عملك مع الرضا عليه السلام فكفانا الله المهم في ذلك، فالله أن تردنا إلى غمّ قد انحسر عنا.
فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا عليه السلام. ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر الله قدراً مقدوراً!! وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتفوقه على أهل الفضل كافة في العلم والثقافة مع صغر سنه، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فتعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.
فقالوا: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لامعرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ثم اصنع ماتراه بعد ذلك فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى، وأن أهل البيت علمهم من الله تعالى لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يثبت لكم به ذلك.
قالوا: قد رضينا بذلك فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب لم يكن لنا اعتراض، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أميرالمؤمنين فيه، فإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه، فرضى المأمون بذلك، فاجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم قاضي قضاة الديار الإسلامية في ذلك العهد أن يسأل الإمام الجواد عليه السلام عن المسائل الغامضة في الفقه الإسلامي، وجاء الموعد واجتمع الناس، ووصل الإمام الجواد عليه السلام وحضر إبن أكثم، وجلس يحيى بين يديه والمأمون بجانب الإمام يهيمن على المجلس، فالتفت إبن أكثم إلى الخليفة وقال: يأذن لي أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟
فقال المأمون: إستأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى قائلاً: جعلت فداك، تأذن لي في مسألة؟
قال أبوجعفر عليه السلام: سل ما شئت.
قال يحيى: ما تقول- جعلت فداك- في محرم قتل صيداً؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: قتله في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مُصّراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أم بالحج كان محرماً؟
فتحيّر يحيى بن أكثم وظهر على وجهه العجز والإنقطاع، ولجلج حتى عرف الحاضرون أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم توجه إلى أهل بيته، فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟
ثم أقبل على أبي جعفر عليه السلام وعرض عليه الزواج من ابنته أم الفضل فقبل الامام الزواج .
ورغم ما قيل في بعض كتب التاريخ عن شخصية المأمون وميوله الى أهل البيت عليهم السلام، لكن حسبنا كوامن الانسان في ايمانه وعقيدته، وليس في ظاهره وشعاراته، فقد بالغ المأمون في الاحتفال والابتهاج بهذا الزواج وهو أعدّ له سلفاً، لعلمه بنتيجة المحاورة، لأن سبق وان شاهد مثله مع أبيه الامام الرضا عليه السلام. تقول الرواية أنه استقدم سفينة مصنوعة من فضة يجرها الخدم على عجلة مملوؤة من الغالية (صنف من العطر)، وقدم أصناف الطعام ووزع الهدايا السخية على الناس. فلما تفرق الناس وبقي بعض الخاصة قال المأمون لأبي جعفر عليه السلام: إن رأيت جعلت فداك أن نذكر الفقه الذي فصلته من وجوه من قتل الصيد، فقال أبو جعفر عليه السلام:
نعم، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها فعليه شاة، فأن أصابه في الحرم فعليه جزاء الضعف، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعلماً – ثعلباً- فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه جزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان احرامه بالحج فنحره بمنى، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة.
فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر، أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك، فقال أبو جعفر عليه السلام ليحيى:
أسألك؟ قال : ذلك إليك – جعلت فداك- فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلاّ إستفدته منك، فقال له أبو جعفر عليه السلام: أخبرني عن رجل نظر إلى أمرأة في أول النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حلّت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلّت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، فما حال هذه المرأة، ولماذا حلّت له وحرمت عليه؟
فقال له يحيى: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيتك أن تفيدنا فقال أبو جعفر: هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار إبتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر اعتقها فحرمت عليه فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم، هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟
قالوا: لا والله، إن أميرالمؤمنين أعلم، وما رأى.
هذه المشاهد وغيرها، كان يحرص المأمون على اصطناعها لإظهار المزيد من الودّ والتقرب للأئمة المعصومين، وان يظهر للمسلمين في زمانه وللتاريخ انه انصف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، لكن يكفيه ما صنع بالامام الرضا عليه السلام، وقد توفي في حياة الامام الجواد، وجاء بعده المعتصم الذي كان ظاهره مثل باطنه في العداء لأهل بيت رسول الله، وكانت خاتمة مطاف الامام على يد هذا الحاكم العباسي في أواخر ذي القعدة سنة 220هـ لكن المنفذ كانت نفس الوسيلة التي تعكز بها المأمون للتقرب من الامام عليه السلام، وهي ابنته (أم الفضل)، فقد غرر جعفر بن المأمون بأخته لاغتيال الامام بالسمّ، وقد اتفقت الغيرة السوداء لها على ضرتها وكانت من الإماء، وهي أم الامام الهادي عليه السلام، مع مؤامرة القصر لإنهاء حياة إمامنا. واتفقا على أن تدسّ السم الفتاك في طعام الامام الجواد عليه السلام، فلما أكل منه أحس بالآلام وبالمؤامرة الدنيئة في آن، ولو إنها ندمت على الفور على فعلها وأخذت تبكي، فقال لها الإمام: والله ليضربنك بفقر لا ينجي، وبلاء لا ينستر، فبُليت بعلة في بدنها فأنفقت كل مالها على مرضها هذا فلم ينفع حتى نفذ مالها كله، وأما جعفر فسقط في بئر عميق حتى أخرج ميتا.
أما امامنا الجواد فبقي ساطعاً في جبين التاريخ وفي ذاكرةالاجيال، وهو اليوم مهوى أفئدة المؤمنين والمسلمين في كل مكان بالعالم.
|
|