مكانة القرآن الكريم في فكر الإمام الصادق عليه السلام
|
* السيد عبد الله العلي
لا زالت شخصية الإمام الصادق عليه السلام تثير اهتمامات الباحثين، لا لأهميتها في التاريخ الإسلامي فحسب، بل لأنّ علوم ذلك العصر تتطلب إلى من يجلو عن حقيقتها لوجودها في مفترق الطرق، ومعاصرتها لعبقريات متباينة؛ كل منها لها مدرستها الخاصة بها، فكثير من الحقائق ظلت طي الخفاء، لأنّ التعصب الذميم الذي فرضه حكّام بني أمية في الشام هو الذي طمس معالمها، ومنع أهل العلم دون البحث والتنقيب، لكن مدرسة الإمام الصادق عليه السلام في الحجاز أخذت زمام المبادرة، متحدية سلطة بني أمية في الشام لنشر تعاليم آل البيت عليهم السلام.
كانت هذه المدرسة تعد من التطورات الكبيرة في ذلك الزمان، فقد كانت تبني عقولاً، وتنشئ أجيالاً، وتؤسس صروحاً من الثقافة، فتضع دستوراً شاملاً لإصلاح الحياة وتطويرها، وتقدمها في جميع الميادين، فالإمام الصادق عليه السلام كان منصرفاً عن الصراع السياسي المكشوف؛ إلى بناء الأمة الإسلامية علمياً وفكرياً وعقائدياً وأخلاقياً، بما يضمن سلامة الخط الإسلامي على المدى البعيد، بالرغم من استمرار الانحرافات السياسية الفكرية في أوساط المجتمع الإسلامي.
لقد اهتم الإمام الصادق عليه السلام ببناء الجماعة الصالحة التي تتحمل مسؤولية تجذير تكريس جذور أهل بيت رسول الله في نفوس المسلمين عن طريق بناء جامعة أهل البيت، وتربية العلماء في مختلف مجالات العلم و المعرفة، ولا سيما علماء الشريعة الذين يضمنون للأمة الإسلامية مسيرتها على المدى البعيد.
وخلال عمره الشريف أغنى الامام الصادق عليه السلام، الحياة والفكر بحسن السيرة، والعلم الغزير، وإشراقاته الروحية، واستنباطه العقلي، فقد عرفت المساجد وندوات العلم في المدينة المنورة، شاباً ورعاً يتفكر في خلق السموات والأرض بكل ما أتيح له من معرفة وإشراق روحي، ويعلِّم الناس بعض ما خفي عنهم من المعرفة القرآنية، فقد كان عليه السلام يركّز في حديثه عن القرآن، على أنَّه هو الذي يضيء جوانب المعرفة الإسلاميّة، وهو الذي يعطي الحكم عن كلّ ما يقدّم من ثقافة ومعرفة اسلاميتين، فقد ورد عنه عليه السلام أنه قال: (إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلِّ شيء، حتى ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبدٌ أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه).
يريد الإمام عليه السلام من خلال هذه الرواية أن يقول: إنَّ الله أنزل القرآن ليحلّ للإنسان قضاياه، بحيث إنَّه يعطيه كلَّ ما يحتاجه، ويقدّم له كلَّ ما يواجهه من قضايا، حتى أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقول لو أنزل الله في هذا القرآن شيئاً من هذا أو ذاك لكان أفضل؛ لأنَّ الله بيّن في كتابه كلَّ شيء، وقوله سبحانه وتعالى (ونزَّلْنا عليكَ الكتابَ تبياناً لكلِّ شيء) لا يعني أنّ في القرآن الكريم علومَ الطبيعة أو الكيمياء أو الفيزياء...؛ لأنَّ دور القرآن ليس ذلك، وإنّما دوره أن يجعل حياتنا في الجانب الثقافي والاجتماعي والسياسي والأمني تسير في خطِّ الاستقامة، فالقرآن ليس هو الكتاب الذي يحدّثنا عن النظريات العلميّة، والاكتشافات، والمخترعات، وإن كان يشير في بعض لمحاته إلى بعض أسرار الخليقة وقوانين الحياة الطبيعيّة.
لذا نلاحظه عليه السلام يشير إلى هذا المعنى، حيث ورد عنه عليه السلام أنه قال: (ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان؛ إلاَّ وله أصلٌ في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال)، فلابُدَّ لمن يريد أن يفهم القرآن الكريم، من أن يملك الثقافة الواسعة العميقة التي يكبر فيها عقله، وينمو معها وجدانه، وتتأصّل فيها فطرته، من أجل أن يتفهّم القاعدة التي يركّزها القرآن الكريم، ليستطيع بعد ذلك أن ينطلق منها لمعرفة هذا الفرع أو ذاك.
وقد أشار عليه السلام عن جده النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إلى أهمية معرفة القرآن الكريم والالتزام به، وما يحمله بين طياته من علوم ومعارف فيها منار وهدى، فهو النور الذي يهدي الناس إلى سواء السبيل، حيث ورد عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (... فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلص من نشب، فإن التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص).
الإنسان الذي يريد ان يُبصر بنور الله في عقله، لا يستطيع أن يحصل على هذه الحياة الفكريّة المتحرّكة، إلاَّ من خلال التفكر الذي ينطلق من عقله، لأنَّه الوسيلة في أن يعرف حقائق الأشياء، وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم بقوله عز وجل: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران /191)، فالإنسان يتحرّك في ظلمات الجهل والتخلّف والعادات المنحرفة والتقاليد البالية، والأفكار الخاطئة، ولكنه عندما يجعل القرآن منطلق فكره، وخطّه الذي ينظر من خلاله إلى الحياة ومواقع المعرفة، فإنَّه يسير في نور يكشف له كلَّ هذه الظلمات وينقذه منها، وإلا فسوف يبقى حائراً، فهذا يحدّثه عن فكر، وذاك يحدّثه عن فكر آخر، او هذا يقنعه بمنهج، وذاك بمنهج آخر، فيضيع ولا يعرف التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحقّ والباطل، لذا يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من خلال هذه الرواية، بأنَّ الحقيقة في الفكر والنور والصواب، إنّما ذلك كلّه في القرآن الكريم. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه).
وعلى ضوء هذه الرواية يكون القرآن الكريم هو القاعدة، خصوصاً وأنه قد كثرت عليه صلى الله عليه وآله الكذّابة، فإذا أراد الإنسان المؤمن أن يعرف الحق الذي جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فهذا كتاب الله و وحيه، وهو النور الذي يمكننا من خلاله الوصول إلى الأفكار والاتجاهات والمناهج السليمة، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (من خالف كتاب الله وسنّة محمد صلى الله عليه وآله فقد كفر)؛ لأنّ الإيمان بالله يقتضي إتباع كتاب الله، والإيمان برسوله يقتضي إتباع سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وعلينا أن نعرف أنَّه ليس عند أهل البيت عليهم السلام أيُّ شيء خارج ما قاله الله سبحانه وتعالى في كتابه، أو بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله في سنّته، لذا يقول عليه السلام: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله)، فمن يزعم أنَّ لدى أهل البيت عليهم السلام، شيئاً زائداً عن الإسلام، وعن كتاب الله عز وجل، وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله، فهو يسيء إلى أهل البيت عليهم السلام، لأنّهم هم أئمة الإسلام الذين يؤصّلون لنا فكر الإسلام من خلال تأصيل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله ثم عن الله سبحانه وتعالى في كتابه.
ولهذا ركز عليه السلام على أهمية حفظ القرآن الكريم وما للحافظ للقرآن الكريم، والعامل به من الأجر والمنزلة العظيمة، وهنا لابد من الإشارة بأن الحافظ ليس الذي يستظهر ألفاظ القرآن فحسب، بل هو الذي يحفظ الفكرة، والخطّ والأفق، والعمل به أيضاً، حيث ورد عنه عليه السلام أنه قال: (الحافظُ للقران، العاملُ به، مع السَفَرَةِ الكرام البَرَرة)، ويحدّثنا عن الحاملين للقرآن فكراً ومنهجاً وكلمة ودعوة وحركةً، وهم العلماء، الذين تحركوا من القاعدة القرآنية التي حملوها في قلوبهم وعقولهم وفقههم، فقد ورد عنه عليه السلام أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنَّ أحقَّ الناس بالتخشّع في السرِّ والعلانية لحامِلُ القرآن، وإنَّ أحقَّ الناس في السرِّ والعلانية بالصلاة والصوم لحَامِلُ القرآن، ثم نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعْكَ الله، ولا تعزّز به فيذلك الله، يا حاملَ القرآن تزيّن به لله يزيّنك الله به، ولا تزيّن به للناس فيشينك الله به، من ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه، ولكنه لا يوحى إليه، ومن جمع القرآن فنوره لا يجهل مع من يجهل عليه، ولا يغضب فيمن يغضب عليه، ولا يحد فيمن يحد، ولكنه يعفو ويصفح، ويغفر ويحلم لتعظيم القرآن، ومَن أوتي القرآن فظنَّ أنَّ أحداً من الناس أوتي أفضل مما أوتي فقد عظّم ما حقّر الله، وحقّر ما عظّم الله).
فالنبي الاكرم صلى الله عليه وآله يشير إلى عظمة النعمة التي تشمل حامل القرآن، فلو فكّر حامل القرآن الذي جُمع له القرآن في عقله وقلبه؛ أنَّ فلاناً الذي يملك الغنى هو أعظم منه، أو تصوّر أنَّ فلاناً الذي يملك الجاه هو أعظم منه، فقد حقّر ما عظّم الله وهو القرآن، وعظّم ما حقّر الله وهو المال، وما إلى ذلك من شؤون الحياة الدنيا، مما لا يرتفع به الإنسان في نفسه، لأنه شيء خارج ذاته، ولهذا نجده عليه السلام يصنف الناس على أربعة أقسام: (الناس أربعة، رجلٌ أوتيَ الإيمان ولم يُؤتَ القرآن، ورجلٌ أوتيَ القرآن ولم يؤت الإيمان، ورجلٌ أُوتيَ القرآن وأوتي الإيمان، ورجلٌ لم يؤتَ القرآن ولا الإيمان، أما الذي أوتي الإيمان ولم يؤتَ القرآن فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الثمرة طعمها حلو ولا ريح لها، وأما الذي أوتيَ القرآن ولم يؤتَ الإيمان فمَثَلُه كمَثَلِ الآسِ ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مرٌّ، وأمّا من أوتي القرآن والإيمان، فَمَثَلُهُ كمثل الأترجة ريحها طيِّبٌ وطعمها طيبٌ، وأمَّا الذي لم يؤتَ الإيمان ولا القرآن فمَثَلُهُ كمَثَل الحنظلة طعمها مرٌّ ولا ريحة لها)، فالأساس في حركة الإيمان في وجدان الإنسان المؤمن هو التأكيد على المعرفة القرآنية، بالإضافة إلى العمق الإيماني في المنطقة الشعورية، لأن قيمة المعرفة تتحدد بمقدار نفوذها إلى كيان الإنسان في الداخل، بحيث تتحول إلى قيمةٍ في الذات، كما أن قيمة الإيمان لا تأخذ موقعها القيمي في الذات إلا إذا ارتكزت على المعرفة القرآنية، وهكذا يتمثل الإسلام في حياة الإنسان المسلم بالمعرفة القرآنية من خلال تجسيدها للقاعدة الإسلامية الفكرية والشرعية والمنهجية.
|
|