رحلة العودة من "التزوير" إلى "الحقيقة"
بمناسة بدء مناسك الحج.. مقتبسات من كتاب"35 حكمة من حكم الحج" لسماحة آية الله السيد هادي المُدرّسي
|
يظن البعض أن الحج رحلة استثنائية، وحالة شاذة،حيث يتغيّر فيه كل ما تعوّدنا عليه، ابتداءً من تغيير العادات والأعمال والمواقف والحركات، وانتهاء بتغيير المواعيد والأوقات. حيث أن الحجاج يحكمون الوقت بحركاتهم، ولا يحكم الوقتُ حركاتهم، فالحج في نظر هؤلاء حالة شاذة. لكن الأمر ليس كذلك، فالحج كما هو رحلة إلى الحقيقة، فهو عودة إلى الطبيعة. فما نعيشه في أوطاننا وبيوتنا هو تزوير في تزوير، ولكننا تعوّدنا عليه، فاعتبرناه حالة طبيعية. تُرى، من أين جاءت سلطة البشر على البشر؟ ومن أين جاءت امتيازات القوة والسلطان؟ ومن أين التمايز في الألوان والأجناس والأعراق؟ ألسنا نُولد حفاة عراة غرلاً، لا فرق بين مولود ومولود، ثم نُلفّ في خرقة، ثم تتحول الخرقة إلى ثوب، ثم يتمايز الناس بالثياب، أو يتمايزون بانتماءاتٍ، ما أنزل الله بها من سلطان؟. ثم ينقسمون إلى ملوك ورعايا. وعلماء وعامة. وأغنياء وفقراء. ثم يموتون، ويعودون إلى ما كانوا عليه حفاة وعراة لا تلفهم إلاّ خرقة، ولا تميّزهم حتى الألقاب والأسماء.هذه هي الحالة الطبيعية، وهذه هي حالة الناس.
في الحج: عودةٌ إلى ما خلقنا الله عليه، ورجوعٌ إلى المساواة كما أرادها الله. فيعود المَلِك واحداً من الناس – كما هو في حقيقته. ويعود الزعيم واحداً من الرعايا – كما هو في حقيقته. ويعود العالمِ واحداً من العامة – كما هو في حقيقته. بلا امتياز للملوك على الرعايا، ولا للعلماء على العامة، ولا للأغنياء على الفقراء. هذه هي الحالة الطبيعية التي نسيناها في حياتنا اليومية. إن الحضارة القائمة أعطتنا البنايات وسلبت منّا السلامات. وأعطتنا الاختراعات وسلبت منا السعادات. وأعطتنا التجملات وسلبت منا العدالات. فافترقنا عبيداً وسادات. وشحّذت فينا الشهوات، وأنستنا عبوديتنا لربّ الأرض والسماوات. ولكن في الحج نعود إلى حقيقتنا: مجرد عبيد مربوبين لا علاقة بيننا وبين ربّنا وهو الملك، المالك، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، إلاّ علاقة العبد بسيّده، وعلاقة المملوك بمالكه. فالله وحده له الجبروت وله الكبرياء والملكوت، أمّا غيره فعبد بين العبيد، ومحتاج بين المحتاجين، وفقير بين الفقراء.
*****
كلُّ موقف في الحجِّ، عبادة. وكلُّ حركة فيه، صلاة. وكلُّ كلام فيه، ذكر. وكلُّ سكوت فيه، تأمل. إنّه طوفان عبادة، يغمر الحاجّ في بحر طاعة الله. إذ لا شيء في الحج يرتبط بالشهوات والمصالح والأهواء. فالمؤمن هنا يحطّم كلّ حصار مفروض عليه، ابتداءً من حصار الأنانية وحبّ الذات، ومروراً بحصار المال والبنين والقناطير المقنطرة والمصالح والكماليات، وانتهاء بحصار الحياة.
الحجُّ عودة إلى البدايات، لتحديد الغايات. وإجابة على السؤال المهم: من أين نبدأ؟ من خلال الإجابة على السؤال الأهم: إلى أين ننتهي؟. هنا تحديد لميناء الخروج، من خلال تحديد ميناء الوصول.
|
|